“دستور” الشركات العائلية وأهميته في استمرار الشركة

الشركات العائلية في المنطقة، بل في كل دول العالم، ظلت وما زالت تلعب دورا كبيرا في كافة الأعمال التجارية الاستثمارية ودفع عجلة الاقتصاد الوطني، خاصة وأنها تعمل في كل المجالات والاتجاهات شرقها وغربها كبيرها وصغيرها. ولقد ثبت أن العديد من هذه الشركات العائلية الآن تتقدم الصفوف مرفوعة الرأس وهي تنافس الشركات العالمية، وتضرب المثل في النزاهة وتوخي المسؤولية اضافة لتقديم أحسن المنتجات والخدمات. ونتطلع الي بروز الكثير من الأمثلة الناجحة من الشركات العائلية تحت قيادة “الربان” المهرة من الآباء والجدود.

Asia 728x90

الشركات العائلية في كل مكان في العالم وبالرغم مما تقدمه من نجاحات مبهرة ومنتجات فريدة بنكهة عائلية خاصة المذاق فريدة الطعم، الا ان جوها وعملها لا يخلو من العديد من الأشواك ومصائب الرياح التي تعصف بها من كل اتجاه، وبالطبع حدوث مثل هذا أو أكثر منه يعتبر أمرا طبيعيا في التجارة ويتوجب على القائمين بأمرها الاستعداد الدائم لمقابلة العواصف. وهنا في هذه الأوقات تتجلي مقدرة الربان “النوخذة” الماهر الذي يقود الدفة بحنكة موروثة وسط الأعاصير وهو واثق من اجتيازها بنجاح والخروج منها وهو أكثر قوة وصلابة و”عقيدة” في شركته التي تمثل عائلته، أهم شيء عنده في الوجود.

ولكن ماذا يحدث للشركة العائلية عندما نفقد أو اذا تنحي هؤلاء العمالقة الأفذاذ من قيادة الدفة، بسبب الوفاة أو لأي سبب ما؟ ماذا يكون مصير الشركة العائلية وفي أي اتجاه تبحر؟ وهل تواصل المشوار أم تتنحي هي أيضا لأن القائد الهمام ترجل أو ترك مكانه وحان وقت استراحته ووضع السلاح جانبا. في حقيقة الأمر، هناك العديد من الشركات العائلية التي تتعثر في المسير وقد لا تقف علي أرجلها بعد تنحي الرعيل الأول من الجدود والآباء وذلك للعديد من الأسباب المرتبطة بالشركة أو بالعائلة صاحبة الشركة، وفي بعض الحالات ربما تستمر بعض الشركات في العمل ولكن معظمها يستسلم ويسلم الراية بعد الجيل الثاني أو ربما الجيل الثالث كأقصى حد.. وهذا الوضع، حقيقة يؤرق الكثير من أصحاب هذه الشركات، ويترددون طالبين العون والتوجيه والنصح.

هناك الكثير من الدراسات والتجارب العملية التي ثبت منها أن الشركات العائلية يمكنها الاستمرار والبقاء رغم العواصف المتعددة ومنها ابتعاد الرعيل الأول ممن تجشموا صعوبات تأسيس الشركة واستمرارها تحت رعايتهم الفطرية التي جبلوا عليها. والشركات العائلية التي صمدت في تجاوز الصعاب تبين أنها انتهجت وسارت على هدي حوكمة الشركات الذي قامت بتطبيقه بكفاءة واقتناع تام، مما أدي بدوره لمساعدتها للوصول فيما هي فيه والبقاء بنجاح رغم الصعوبات في كافة المجالات، والأمثلة كثيرة مثل البنوك الخاصة وشركات الاستثمار وصناعة المجوهرات والساعات والعقار والمطاعم.. الخ.

لا بد من القول، أن وضع الشركات العائلية يختلف عن وضع الشركات الأخري المؤسسة وفق أحكام قوانين الشركات التجارية مثل شركات المساهمة. وهذه القوانين ولوائحها بالطبع تحوي كل شاردة وواردة عن مسار العمل في الشركة منذ مرحلة التأسيس وحتي نهاية المشوار. ولكن عدد كبير من الشركات العائلية والفردية يعمل بمعزل عن هذه القوانين المنظمة للعمل المؤسسي والأمر يمشي وفق هوى المالك وتجاربه وانفعالاته ووفق مقتضيات كل حالة على حدة، ولذا فان الأمور غالبا تسير بعيدا عن المؤسسية الحاكمة والمنظمة للأعمال. ومن هذا الباب تأتي الأرياح الهادئة أو العاصفة.

مثل هذا الفراغ يتطلب الالتزام بمبادئ الحوكمة. ومن أهم المطلوبات لحوكمة الشركات العائلية وجود الشفافية الكاملة بين كل أطراف العائلة واتباع الشفافية كمنهج ومبدأ في كل الخطوات، ومن هذا يأتي الافصاح التام عن كل ما يتعلق بالشركة وكذلك كل ما يتعلق بأفراد العائلة في الشركة في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور، وفوق الشفافية والافصاح لا بد من وجود المسائلة والمعايير المطلوبة لتطبيقها، مع الحرص علي تطبيق مبدأ المسائلة علي الجميع وفوق الجميع من أعلي القمة لقاع الهرم. وعلينا أن نستوعب جيدا أن لكل شركة عائلية نكهتها ولونها وتراثها وتقاليدها وعاداتها ومزاجها وأسرارها ومبادئها وعقيدتها….. والمعايير المذكورة أعلاه من، شفافية وافصاح ومسائلة، يجب ألا تأتي من فراغ بل تخرج وتتطابق وتنسجم تماما مع ما عند العائلة من الأرصدة المذكورة أعلاه. والا سيكون مصير التجربة الفشل لأنها أتت من وضع بعيد عن الواقع ولا يمت له بأي صلة.

والمبادئ التي ذكرنا بعضها، تحتاج الي بلورة وفلترة متناغمة في جلسات هادئة مليئة بالصراحة المغلفة بالحب والود الذي يربط بين جميع أطراف العائلة وملاك الشركة العائلية، دون استثناء لأحد كبيرا أو صغيرا، ذكر أو أنثي…. وعبر هذ البلورة تتم صياغة “دستور الشركة العائلية” أو “برنامج أو نظام عمل الشركة العائلية” أو “نموذج عمل الشركة العائلية”. أو غير هذا من الأسماء ولكن المهم هو اتفاق الأطراف على محتوياته وكذلك اتفاقهم على كيفية تغييره أو تعديله اذا دعى الحال. ان وجود هذا الدستور المكتوب في الأوراق والمنحوت في العقول، يفتح أبواب المستقبل للشركة العائلية ويمكنها من الابحار في كل الاتجاهات لأن “البوصلة” موجودة وتهديهم لطريق الأمان والسلامة.

هذا الدستور يحتوي على كل التفاصيل الضرورية لضمان استمرار الشركة العائلية تحت كل الظروف. وهناك شركات عائلية مستمرة الآن وبكل نجاح لمئات السنين لأن ملاكها نسوا ما يخص أنفسهم وقاموا بوضع دستور متفق عليه من الجميع، وعبر هذا الدستور تسير الشركة في كل الأحوال لتحقيق مصلحة الجميع. وقانونا “الدستور” هو ما يتفق عليه الأفراد في الدولة، مثلا، لكيفية سير الحكم وتنظيم كافة أمورهم وشئونهم. وباعتماد الدستور يكون كل طرف قد ترك بعض الحقوق أو المطالب الشخصية التي يراها وتنازل عنها لصالح الحقوق العامة التي تشمل الجميع. واذا رجعنا لتاريخ مسيرة الدساتير والمواثيق، فإننا نجد مثلا في “الماجنا كارتا” التي وافق عليها ملك انجلترا في ذلك الوقت تنازلا كبيرا من امتيازاته وحقوقه لصالح الشعب حيث كانت سلطة الملك مطلقة تماما، ولكنه تنازل عن بعضها وقبل بالوثيقة العامة المتمثلة في الماجنا كارتا، وهكذا كل الدساتير التي تراعي الحقوق العامة لصالح العامة وهذا الوضع ينطبق أيضا علي الشركات العائلية عندما تتفق علي “دستور العائلة” وهو يخلق “بنش مارك” عام يجب أن يتبعه الجميع حتي علي حساب مطالبهم وحقوقهم الخاصة، كحقوق الذكور أو الولد الكبير مثلا…. ومن أهم النقاط التي يتطرق لها الدستور موضوع الاستخلاف “التوارث” ومن يخلف من في الادارة وفي كل المسائل المرتبطة بالشركة العائلية، وقد يحدث فراغ في حالة عدم وجود خطة متفق عليها في التوارث وتحمل المسؤوليات. وهذا الفراغ في حقيقة الأمر قد يكون هو “البعبع” الأول الذي قد يؤدي لنهاية وموت الشركة العائلية وتقاسم توزيع الكيكة بما في داخلها. ولذا فان وجود الدستور الذي يوضح الاستمرارية وكيفية ملأ الفراغ يمنح ضمانا لمسيرة الشركة العائلية واستمرار هذه المسيرة الي سنوات لا تحصي ولا تعد.

ومن التجارب الناجحة جدا في بعض الشركات العائلية، والتي تم تضمينها في دستور العائلة، فيما يتعلق باختيار الوريث أو الورثة لتكملة المشوار، نجد أن الأب الكبير أو قائد العائلة لا يقوم بترشيح الوريث بنفسه بل يدعو جميع أفراد العائلة للنقاش فيما بينهم بكل ديمقراطية لاختيار من يرونه مناسبا لاستلام دفة الادارة وبالطبع الأب يشارك في كل هذه الاجراءات. وفي أثناء هذه الفترة، على كل من يري في نفسه الكفاءة أو يرغب في تولي منصب ادارة الشركة أن يقوم بعرض أفكاره وبرامجه وتطلعاته. ومن هذا الوضع المثالي يجد كل فرد في العائلة الفرصة لعرض نفسه وأيضا في المقابل يجد جميع أفراد العائلة الفرصة لاختيار قائد المستقبل نيابة عنهم ولمصلحة العائلة. وكل هذا من التجارب الجميلة الناجحة للشركات العائلية التي قامت بوضع “دستور” المستقبل لصالح استمرار الشركة بعيدا عن الأشخاص والرغبات الفردية الذاتية. وعلينا الاستفادة من هذه التجارب الناجحة لتستمر شركة العائلة وميراث العائلة المتميز بجينات و”دي ان أيه” العائلة. وبوضع “الدستور” تكون الشركة العائلية في أفضل الأوضاع للسير في طريق المستقبل الملئء بالنجاح.

المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب

المؤسس والمدير التنفيذي

ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م

البحرين \ دبي