جريدة عمان تشجيع الحد الأدنى للخدمات المصرفية

د. عبد القادر ورسمه غالب

الخدمات المصرفية أصبحت من ضروريات الحياة، بل تعتبر من الحقوق الاقتصادية التي يجب توفيرها لكل شخص من ضمن الحقوق الاساسية لكل انسان. وهذا، لتحقيق المزيد من التنمية الاقتصادية والمجتمعية وأيضا لمنح الاستقلال الشخصي. وفي هذا الاطار، اهتم البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي الأوربي (أو اي سي دي) ومجموعة دول العشرين (جي تونتي) وغير ذلك من المنظمات الدولية والتجمعات المالية المؤسسية بضرورة تحقيق الشمول المالي (فايننشال انكلوشن).

Asia 728x90

هذا الشمول ليشمل الجميع، يتطلب منح المزيد من الاهتمام لكافة قطاعات المجتمع للمشاركة في الحصول علي الحد الأدنى من الخدمات المصرفية لكل فرد من المجتمع. وفي هذا المنحى، لا بد من تقديم عناية خاصة للفئات الفقيرة واصحاب المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر. وهذا التوجه الشمولي، لا بد منه، خاصة وأن اشراك الجميع في ما يعرف ب “الشمول المالي” سيحقق فوائد جمة لهم جميعا ولكل قطاعات المجتمع في الدولة.

لقد تبين من العديد من الدراسات، أن نسبة كبيرة من الأفراد تتجاوز  85%، وخاصة، في المجتمعات الفقيرة لا تحصل علي الخدمات المصرفية الكافية، أو لا تتعامل عبر البنوك التي لا تعرف طريقها اعتقادا منها أن هذه الأماكن الجميلة هي “نوادي خاصة” مخصصة لفئات معينة فقط وغير مسموح لغير “الأعضاء” بالدخول أو التطفل بالاقتراب. مع العلم، أن النسبة المذكورة تزيد كثيرا في دول العالم الأكثر فقرا. وهذا الأمر بالطبع غير مقبول، خاصة ونحن في هذا العصر المتطور المنفتح لدرجة بعيدة، ووجوده سيضر كثيرا بالحركة الاقتصادية والتنمية المجتمعية في البلد. 

ان هذه النسبة الكبيرة من الأفراد والتي لا تتعامل مع البنوك، تعتبر “خارج التغطية” المصرفية وبالتالي فهي غير مشمولة وتقع خارج مجال الشمول المالي. وفي هذا الأمر، كما ذكرنا، أضرارا اقتصادية ومالية ومصرفية عديدة لأن فتح الحسابات المصرفية ووضع كل الأموال في هذه الحسابات والتعامل عبرها سيمكن القطاع المصرفي من تجميع كل الأموال في يديه وخزائنه ومنها يتم تدوير هذه الأموال وصبها بعناية فائقة لتحريك التجارة والتنمية والاستثمارات المتنوعة التي تعود علي كل المجتمع. لينعم بها..

وهذه الحركة الدائرية الدؤوبة في البنوك للأموال النقدية يستفيد منها جميع الأطراف في البلد خاصة وأنها تؤدي الي توفر الأموال في أيدي البنوك والمؤسسات المالية المرخصة لحسن استخدام وادارة هذه الموارد المالية وفق الأنظمة القانونية والاجراءات السليمة والممارسات المصرفية المتبعة وبما يضمن حقوق جميع الأطراف، وتحت نظر وبصر الجهات الرقابية الاشرافية المتخصصة، لتسير الأمور في تناغم مهني قانوني سليم..

نلاحظ أن بعض البنوك متخمة بالأموال، لدرجة التشبع، في الدول التي يكون فيها وعيا بضرورة وضع الأموال وايداعها في البنوك والتعامل بالشيكات وبطاقات الائتمان والدفع الآلي وغيرها من أموال “البلاستك”…. وهذه البنوك المتخمة تكون مليئة وتتمتع بملاءة مالية (نت ويرث) قوية وعالية تمكنها من تلبية كل القروض الكبيرة وتقديم كافة التسهيلات المالية لقيام المشاريع العملاقة والعمران والتنمية في كل الأطراف..

وبالطبع فان العكس يحدث عندما يقل أو ينعدم التعامل مع البنوك التي تصبح خاوية الوفاض واليدين وتكون قليلة الحيلة ولا تملك ما تقدمه. ومن هذا تأتي العبرة والحسرة مع الغصة في نفوس البنوك والعامة.. ولذا لا بد من التحرك الفاعل لتصحيح الأوضاع وتفعيلها، ومن هنا أتت الفكرة بضرورة الحرص علي تحقيق “الشمول المالي” وتطبيقه من أجل الفائدة المرجوة للمجتمع وكل فرد فيه.

وهنا لا بد من القول بصراحة، أنه توجد مسؤولية مباشرة علي الدول ومسؤولية علي المجتمع بكل قطاعاته، وكذلك توجد مسؤولية مهنية علي كل القائمين بأمر الصناعة المصرفية الحديثة.. ولأهمية الأمر، يجب علينا الاجتهاد والارتفاع لتحمل هذه المسؤولية والتصدي لها لتأخذ مسارها الصحيح لتحقيق الهدف المنشود.

وعلي الدولة وضع خطط قصيرة وطويلة المدي لدعم وتشجيع وتوطيد أرجل الشمول المالي ليشمل الجميع. وهذا يتمثل في أن تضع الدولة اللوائح والاجراءات والضوابط التي تحفز التعامل مع البنوك بل والعمل قدر المستطاع علي حصر كل التعاملات المالية عبر منافذها التقليدية والالكترونية لتحقيق الاستفادة القصوى من آلياتها المنتشرة..

وهذا قد يتمثل، مثلا، في وضع الضوابط لتحويل كل المرتبات والمعاشات للبنوك وبهذا يكون لكل عامل أو مؤسسة حساب مصرفي يتعاملون عبره، وكذلك تقديم الدفعيات المالية للمشروعات عبر البنوك فقط. وعلي أصحاب الشركات والنقابات والتجمعات العمالية والمؤسسات التجارية بكافة أحجامها تشجيع أفرادها للتعامل عبر البنوك والاصرار علي تمرير كل المعاملات المالية عبر الحسابات المصرفية فقط. وهكذا نخلق واقع جديد ونمهد لثقافة التعامل مع البنوك وكسر حواجز التعامل معها.

وأذكر ان أحد وزراء مالية بريطانيا طالب بفرض ضريبة علي كل الدفعيات التي تتم نقدا “كاش”، ومهما كان حجمها، خارج منظومة المصارف. وهم يدرسون الأمر الآن.. وفي هذا الخصوص، علي البنوك تقديم التسهيلات لأقصي درجة ممكنة لتمكين الجميع من فتح الحسابات المصرفية بشتي أنواعها من جارية وتوفير واستثمار.. وكذلك تقديم الاغراءات لفتح هذه الحسابات والحرص علي التوفير لجني الفوائد العديدة والمغرية التي تقدمها البنوك لأصحاب الحسابات المصرفية والودائع المتعددة. وربما، أيضا النظر في رفع نسبة الفائدة حتي لحدود ضئيلة جدا.. كما فعل بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي قبل أيام، وتبعته في ذلك معظم البنوك المركزية الأخرى.

وبالطبع، فان تجمع الأموال في يد المصارف ستعود بالفوائد العديدة علي المجتمع وأقلها سيرجع في مشاريع “مساهمة التنمية الاجتماعية” التي تقدمها البنوك من أرباحها للمجتمع الذي ساهم في تحقيق هذه الأرباح. وهكذا “دائما” تدور الدوائر وكما يقولون يأتي الاحسان بالإحسان، وما جزاء الاحسان الا الاحسان..

وهناك ضرورة أيضا تستوجب قيام البنوك بتسهيل اجراءات التعامل معها وتبسيط وصول الخدمات المصرفية للجميع لأقصي درجة وخاصة للفئات الفقيرة من الأفراد وللمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لأن التصاق هذه الفئات بالبنوك وتعودهم علي التعامل معها سيقلب الموازين وسيحقق طفرة كبيرة نحو الوصول لطريق “الشمول المالي” الذي ستشمل فائدته جميع الأطراف بدون فرز.

ان التعامل مع البنوك الآن لم يعد ترفا لعضوية خاصة وانما أصبح ضرورة ماسة تتطلبها الظروف الحالية. والآن مع الطفرة التقنية فان في يد كل شخص في المدن والبوادي والقري والسهول جهاز تلفون. والكثير منهم يستعمل هذا الجهاز في تحويل “رصيد” ليتمكن من الاتصال التلفوني، وهذا الاجراء من الناحية الفنية المحضة يعتبر عملا مصرفيا، لأن هناك طرف يحول رصيد أموال لطرف آخر.

وعلي البنوك الاستفادة من هذا الوضع السائد والمتداول بين العامة والبدء في تقديم الخدمات المصرفية عبر التلفون الموجود في كل يد في كل وقت. ولقد استفادت دول كثيرة وعملت علي توسيع المعاملات المصرفية عبر جهاز التلفون. ومثلا أذكر هنا في زيارتي لبنغلاديش، علمت أن التعامل المصرفي عبر التلفون استطاع جعل كل الأموال الموجودة في البلد في حالة دوران لا تتوقف.. وهذا ما يسعي لتحقيقه “الشمول المالي”..

ان تسهيل تعامل الجميع مع البنوك والعمل علي تسيير وتحويل الاموال عبر منافذها المتعددة علي مدار الساعة، سيحقق طفرة الشمول المالي الذي سيعود بدوره بفوائد عديدة علي التنمية الاقتصادية والتنمية المجتمعية المتحضرة. ولكن هذا يحتاج لتضافر الجميع وخاصة الجهات الرسمية في الدولة التي يجب عليها قيادة الصفوف لتحقيق الدفع المطلوب لجعل الشمول المالي أمر واقع ومعاش..

د. عبد القادر ورسمه غالب

خبير قانوني

ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات

المنطقة الدبلوماسية — برج الدبلومات