القواعد الذهبية للتحكيم

الخميس 30 مارس 2023

Asia 728x90

بدأ التحكيم يأخذ طريقه كأحد البدائل المتوفرة لتسوية المنازعات التي ظلت تتم عن طريق المحاكم. والتحكيم يتميز بالسرعة في الفصل ويمنح الأطراف الحق في اختيار هيئة التحكيم وما يرتبط بعملها، ولهذا نقول ان التحكيم ارادة الأطراف أو “محكمة خاصة” اختارها الأطراف كبديل عن المحاكم. وقوانين التحكيم تقنن عملية التحكيم وكل ما يرتبط بها من اجراءات، ويلعب المحكم “الفرد أو عضو هيئة التحكيم” دورا كبيرا في تحقيق مرامي التحكيم وتفعيل ما ورد في القانون.

كما ذكرنا، فان من مميزات التحكيم أنه يمثل “إرادة الأطراف” في اللجوء إلي التحكيم كأحد البدائل لتسوية المنازعات، وأهم أعمدة التحكيم يتمثل في شخص المحكم الذي يختاره الأطراف في الغالب، ومن هذا تأتي أهمية الدور المحوري الذي يقوم به “المحكم” من بداية إخطاره بمهمة التحكيم وحتى صدور القرار النهائي المنهي للخصومة.

إن تصرفات وسلوك “المحكم” قد تؤدي إلي قبول قرار التحكيم من الجميع وعلى رأسهم أطراف الدعوي أو عدم قبول القرار ورفضه وقد يتم قبول الطعن مما يؤدي إلي نسف كل المجهودات التي تمت أثناء التحكيم. وحتى لا يحدث هذا، هناك قواعد سلوك وأخلاقيات يتمسك بها “المحكم” ويجب أن تكون متأصلة في ذاته وضميره ووجدانه وأخلاقه.

قامت عدة جهات منها الجمعية الأمريكية للتحكيم والجمعية الدولية للمحامين بإعداد بعض القواعد التي تسمي “قواعد سلوك المحكمين”، ويمكن الاسترشاد بهذه القواعد وإتباعها بواسطة كل محكم. وإضافة لهذا قد يقوم كل مركز تحكيم بإصدار توجيهات تلزم كل محكم يتعامل مع المركز. ومن واقع الممارسة وبعد الاطلاع علي العديد من الدراسات والبحوث وبالرجوع إلي بعض القرارات (الأحكام) الهامة فإننا نخلص إلي إن قواعد السلوك التي يجب التمسك بها في كل الأوقات بواسطة كل محكم، تتمحور في الآتي:

  • عدم السعي لدي الأطراف لتولي مهمة التحكيم، ولا يجوز لأي شخص أن يسعي بأي صورة من الصور لتولي مهمة التحكيم في نزاع معين وذلك لما قد يثيره هذا المسعى في النفس من شكوك و شبهات حول مصلحة محتملة أو فائدة مرتقبة يأمل هذا الشخص في جنيها.
  • عدم قبول مهمة التحكيم إلا بعد التأكد من توفر القدرة المهنية لديه والتي تؤهله للقيام بأعباء مهمة التحكيم، ومن الأهمية التزام المحكم بهذا الأمر  وأن لا يقبل مهمة التحكيم إلا بعد التأكد التام من توفر المقدرة المهنية التي تمكنه من الاضطلاع بمهمة التحكيم ومن هذا مراعاة التخصص في الموضوع كقضايا الفيديك  مثلا أو الاعتمادات المستندية، وأيضا ضرورة التفرغ لنظر الموضوع حتى لا يكون سببا في تأخير الفصل في النزاع دون مبرر، والمعرفة التامة بلغة التحكيم و كل الأمور المرتبطة به.
  • الإفصاح التام عما قد يكون من شأنه التأثير على حيدة المحكم  ويجب على المحكم أن يلتزم وفور إخطاره بمهمة التحكيم بالإفصاح الكامل ودون أي غموض أو مواربة، عن أي أمر من شأنه أن يؤثر في حيدته عند قبوله مهمة التحكيم وحتى تمام الانتهاء منها، ويشمل الإفصاح أي علاقة عمل أو مصلحة أو فائدة أو قرابة دم أو مصاهرة. والسؤال الذي يطرأ هل يكون الإفصاح واجبا مما هو سابق أو معاصر لمهمة التحكيم ؟ وما إذا كان يشترط معرفة المحكم بما هو ملتزم بالإفصاح عنه أم يكفي أن يكون في استطاعته العلم بما هو ملتزم بالإفصاح عنه؟ وعما إذا كان الإفصاح شفويا أو كتابيا؟ وينصب الالتزام بالإفصاح على ما هو سابق على قبول المحكم لمهمة التحكيم وما هو لاحق عليها، هذا وفي جميع الأحوال يشترط أن يكون الإفصاح كتابيا حتى يتم توجيهه لكل الأطراف وللمحكمين وحتى يكون حجة علي مقدمه.
  • عدم تجاوز الحدود المحددة له طبقا لاتفاق التحكيم بالزيادة أو النقصان حيث يجب أن يلتزم المحكم تماما بعدم تجاوز حدود “مهمة التحكيم” وهذا يتناول كل ما تم الاتفاق عليه في اتفاق أو مشارطة التحكيم ويشمل، دون حصر، القانون الواجب التطبيق إضافة للقواعد الإجرائية المتفق عليها.
  • الالتزام بضرورة إدارة التحكيم في كل مراحله بعدل ونزاهة وحسن معاملة وهذه القاعدة تقتضي أن يتوخى المحكم في عمله الحيدة التامة والاستقلال الكامل و”الحيدة” و”الاستقلال” مصطلحان مختلفان تماما عن بعضهما البعض وغير متطابقين. والمقصود بالحيدة التجرد لدي التعامل مع موضوع التحكيم، وتنتفي الحيدة عندما يحابي المحكم أحد الأطراف أو يبدي رأيا مسبقا في النزاع. ومن الجدير بالذكر أنه وفي حكم هام تقرر أن إبداء الرأي استنادا لرأي علمي بعيدا عن وقائع النزاع المطروح لا ينال من هذه الحيدة. وعلى الطرف الآخر، فان المقصود بالاستقلال هو ألا يكون المحكم تابعا في عمله لغيره أو يتلقى تعليمات خارجية بخصوص التحكيم  وفي جميع الأحوال ينتفي الاستقلال إذا ارتبط المحكم بأحد الأطراف أو بأحد أقربائهم بأي علاقة من أي نوع. ويتفرع من قاعدتي العدل والنزاهة عدة أمور مثل عدم إدارة التحكيم بطريقة يترتب عنها وصول تكلفة التحكيم إلي مستوي غير متناسب مع المصالح المالية المتنازع عليها، والالتزام بالمواعيد الإجرائية للتحكيم تفاديا للطعن لإبطال الحكم، واحترام قاعدة المساواة بين أطراف التحكيم في كل ما يتصل بالتحكيم ويندرج ضمن هذا التزام المحكم بتمكين كل طرف من أن يستعين بمستشار، وحظر استلام الهدايا أو العطايا أو أي مزايا بطريق مباشر أو غير مباشر من أي من أطراف التحكيم سواء كانت سابقة أو لاحقة على الفصل في التحكيم ما دامت مرتبطة به. ولا بد من الإشارة هنا إلي أن معظم أسباب الطعن في قضايا التحكيم تدور في رحى الحيادية والاستقلالية، فلننتبه ونبتعد عن الشبهات ولنسمو ونرتقي بمهنتنا.
  • الامتناع عن الاتصال بأي طرف من الأطراف علي حدة، وعلى المحكم الالتزام التام بعدم الاتصال بأي من الأطراف على حدة لتعارض ذلك مع مبدأ الشفافية الواجب الإتباع، ولا يدخل في هذا بالطبع رد المحكم على استفسارات الأطراف فيما يتعلق باستعداده لقبول التحكيم ومدي تفرغه. فإذا حدث أي نوع من الاتصال فيجب العمل علي إعلام الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى أو المحكمين الآخرين شفاهه أو كتابة ومدهم بصورة من المراسلات، ويلحق بهذا التزام آخر يتمثل في عدم مباشرة أي ضغط على أي طرف من أطراف التحكيم. ولا يعد بمثابة الضغوط المحظورة دعوة الأطراف المحتكمة لدراسة تسوية ودية وإنما المحظور هو مشاركة المحكم في جلسات التسوية دون موافقة الأطراف المحتكمة.
  • حظر الاستفادة من المعلومات التي حصل عليها المحكم أثناء إجراءات التحكيم وذلك لتحقيق أي مغنم أو مكسب لنفسه أو للغير، وهذا يستدعي نفض اليد وترك كل ما يتعلق بالتحكيم وتفاصيله ومساراته داخل قاعات التحكيم إلي ما لا نهاية.
  • على المحكم عدم التنازل عن اختصاصه بحسم النزاع إلي أي شخص آخر ويترتب على ذلك أن يلتزم المحكم في حالة اتفاق الخصوم على حل معين للنزاع أن يشير في الحكم إلي انه قائم على هذه التسوية الاتفاقية. ووفقا لأحد القرارات الصادرة من هيئة التحكيم بغرفة التجارة الدولية بباريس أنه لا يعد تنازلا عن الاختصاص بالحكم عندما يطلب المحكم الاستنارة برأي خبير قانوني في مسألة يجهلها أو لا يعلمها علم اليقين فيما هو متعلق مثلا بالقانون الواجب التطبيق علي النزاع.
  • سرية المداولات والقرارات وعلى المحكم أن يلتزم تماما بالحفاظ على سرية المداولات والقرارات ومقتضي ذلك ألا يفصح المحكم عن أي معلومات من شأنها النيل من أو المساعدة في النيل من القرار بأي صورة من الصور أو حتى المشاركة في أي إجراء تحكيمي لاحق في نفس الموضوع ما لم يلزمه القانون بذلك لأن الإفصاح في بعض الحالات قد يتم وفق القانون أو بموجب توجيهات المحاكم القضائية. هذا، مع العلم أن بعض قواعد التحكيم تتيح للمحكم أن يفصح أو يفشي سرية المداولات والقرارات إذا كان المقصود من ذلك كشف غش أو تلاعب أو عدم أمانة محكم أو أكثر.
  • على المحكم النأي بنفسه والابتعاد تماما عن التأثر بالضغوط الخارجية والإشاعات والخوف من الانتقاد والاستعداد لمقابلة كل ما يطرأ من ظروف أو مواقف بكل الشجاعة المقرونة بالحكمة والكياسة، “… إن خير من استأجرت القوي الأمين.. ” مع الحرص دائما على درء شبهة تحقيق أية مصالح شخصية على حساب العدالة، ولتحقيق هذا الوضع فان الأمر بالضرورة يقتضي أيضا إلزام المحامين في الدعاوي التحكيمية ومن يقف خلفهم، بعدم إرهاب المحكمين بتهديدهم بالرجوع عليهم بالمسئولية التقصيرية وخلافها وذلك للتأثير وللضغط النفسي عليهم لإصدار قرارات مهزوزة وجاهزة للطعن أو لحملهم على الاعتزال والهروب من المسؤولية. ولنجعل تصرفاتنا السليمة وأخلاقنا الأصيلة حصنا منيعا لنا ومنبعا للحصانة الذاتية قبل الحصانة القانونية الوضعية.

ما ذكرناه أعلاه يشكل بعض القواعد الذهبية المتعارف عليها عالميا والتي يتطلب توفرها في “المحكم” حتى يصل بمهمة التحكيم إلي تحقيق الهدف المنشود. ونحن لدينا توجيهات أعلي وأسمي من هذه القواعد حيث يربينا صاحب العرش العظيم جل جلاله ويوجهنا بعدة أوامر سامية منها “.. إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..” وأين نكون من هذه التوجيهات وأين المفر من العدالة السماوية إذا أخفقنا في إتباع هذه التوجيهات الربانية التي يجب أن تشكل كل تصرفاتنا إذا قبلنا مهمة التحكيم.

المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب