العقود الدولية واختيار القانون الواجب التطبيق

يتم إبرام العقود الدوليةعلى مدار الساعة مع الأفراد أو الشركات أو مع المؤسسات المصرفية المراسلة أو البنوك، وفي جميع الأحوال يتم الاتفاق بين كل أطراف العقد على العديد من المسائل القانونية المتنوعة والمتشعبة. ومن النقاط الهامة التي تثار للنقاش والتفاوض، نقطة القانون الواجب التطبيق على العقد Governing law \ Applicable law . وفي العادة فان الاتفاق علي القانون الواجب التطبيق يمثل مهمة غير يسيرة وقد يتطلب الوصول إلى هذا الاتفاق فترة من التفاوض والتفكير الثاقب وذلك لما يرتبط بالاتفاق من جوانب قانونية مختلفة ناهيك عن الحنكة المطلوبة وكما يقولون التفاوض فن -negotiation is an art- ويحتاج إلي دراية خاصة.

Asia 728x90

إن اختيار القانون الواجب التطبيق في العقود ذات الصبغة التجارية الدولية يعتبر أمرا معقدا لان هذه العقود مرتبطة بجهات ومؤسسات عديدة منتشرة في دول مختلفة مما يعطيها القابلية لتطبيق عدة قوانين عليها. وكمثال نفترض أن بعض الشركات العالمية اتفقت مع بنوك من أمريكا وفرنسا وانجلترا واليابان على إصدار سندات لتمويل مشروع عالمي في الكويت أو في دبي أو في دول الخليج فما هو القانون الواجب التطبيق على هذا العقد ؟ هل يطبق القانون الأمريكي أو الإنجليزي أو الفرنسي أو الياباني حيث مكان إصدار السندات ومكان إقامة البنوك وسداد المبلغ أم يطبق قانون الكويت أو دبي أو غيرهما من دول الخليج حيث يتم تنفيذ المشروع العالمي المزمع إقامته، أم يطبق قانون مكان آخر بعيدا عن كل هذه الأماكن على حسب الاتفاق بين الأطراف المشتركة في العقد ؟ والمثال أعلاه يتكرر بصورة شبه يومية، إذا لم نقل عدة مرات في اليوم، في العمل المصرفي الدولي وهذا يوضح مدي تشعب موضوع اختيار القانون الواجب التطبيق ومدي صعوبته خاصة وأنه يحق لكل طرف في العقد – ومن الطبيعي – أن يرغب في اختيار القانون الذي يناسبه على الرغم من إمكان تباينه مع القوانين الأخرى واختلافه عنها. وفي كل الأحوال وبالنسبة إلى العقود المتعددة الأطراف فلا بد من اختيار القانون الواجب التطبيق والنص عليه صراحة في العقد وذلك حتى لا يكون هناك فراغ vacuum  قانوني قد يقود إلى منازعات قانونية حادة في المستقبل. لان مثل هذا الفراغ عندما يحدث فانه سيملأ بواسطة المحاكم التي تنظر القضية وهذه المحاكم قد تطبق قانونا غير محبذ للطرف المعني. ومن المبادئ القانونية الذهبية والأصولية Golden Legal Rules   النص صراحة علي أن العقد شريعة المتعاقدين وعليه فان ما تقوم أطراف العقد باختياره ليكون القانون الواجب التطبيق هو الذي يجب أن يطبق عند النزاع علي مكونات العقد أو تطبيقه، ولكن مثل هذا الاتفاق في العادة ليس بالأمر السهل كما يبدو من أول وهلة وقد يتطلب الكثير من التفاوض بل أن هذا الموضوع ونظرا لحساسيته قد يقود إلي الفشل وإلغاء الصفقة وعدم تكملة التعاقد وما قد يرتبط بهذا من خسائر مالية ومعنوية. ومن الناحية العملية، ومن تجربتنا المتواضعة، نقول أن هناك الكثير من الصعوبات العملية المرتبطة بموضوع اختيار القانون الواجب التطبيق خاصة إذا أصر كل طرف على تطبيق قانون معين وفي بعض الحالات تتمسك الأطراف بالقانون الوطني national law أي قانون بلدها وذلك ربما بسبب الحمية أو النزعة الوطنية nationalistic egoism أو لأنه قد لا يجوز لهم الاتفاق على أي قانون أجنبي لأن هناك دول تشترط القانون الوطني في عقود المشتريات الحكومية. وقد يصر البعض على تطبيق قانون معين لاعتقادهم الجازم وقناعتهم الذاتية بأنه القانون الأفضل للتطبيق علي العقد محل التفاوض، أو قد يصر البعض علي قانون معين لأنهم في وضع أقوي أثناء المفاوضات أو لأنهم من أصحاب اليد العليا أو لأنهم لا يثقون تماما في الطرف الآخر أو لأن لديهم مقدرة عالية في التفاوض أو لأي سبب وهكذا دواليك والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال هنا لذكرها. ومن الجدير بالذكر فان اتفاقية إنشاء المركز الدولي للفصل في منازعات الاستثمار

 International Center for Settlement of Investment Disputesتنص على ضرورة الالتزام والتقيد التام بالقانون الذي يختاره الأطراف وربما يتم اختيار القانون الذي يقترحه المقرض أو المقترض أو يتفق الأطراف على قانون مكان أو بلد محايد غير مرتبط بالعقد. ومن الملاحظ أن بعض الدول الأوروبية عند التعاقد تختار القانون السويسري في حالة عدم الاتفاق على تطبيق قانون أي من الدول المتعاقدة وذلك نظرا لقناعتهم بتطور النظام القانوني والتجاري في سويسرا، وهذا في نظرنا يمثل منتهي الرقي والتقدم حيث يعترف الأطراف في أوربا وعن قناعة تامة بان هناك قانون بلد أجنبي متطور أكثر وأن بهذا البلد الصغير خبرة يتطلعون إلي الاستفادة منها في عملياتهم التجارية.

هذا وننتهز هذه السانحة لننصح ولنؤكد، بأن اختيار قانون المكان الثالث أو البلد الأجنبي المحايد  the neutral countryفي جميع الأحوال يجب أن يتم ويكون بحسن نية  in good faith  وهذا يعني انه يجب ألا يتم اختيار هذا القانون بغرض ونية التهرب من قانون معين أو محدد في الأماكن والبلدان المرتبطة بالعقد، هذا ولا بد أن نذكر أيضا انه  قد يحدث في بعض الحالات اتفاق الأطراف على اختيار القانون الدولي (العام أو الخاص) ومحكمة العدل الدولية أو غير هذا وذاك. والخطورة في أن اختيار ما يسمي بالقانون الدولي تتمثل في أن هذا الاختيار يعتبر مطاطا elastic وغير محدد وهذا ربما يقود إلي تعقيدات خاصة إذا ظهر نزاع بين الأطراف.

كما أوضحنا أعلاه فانه يحق لأطراف العقد، و كقاعدة قانونية ذهبية، اختيار القانون الواجب التطبيق وقد يتم الاتفاق بين الأطراف على الآتي:

-تطبيق قانون البلد المقرض ويكون هذا في الغالب في عقود التمويل لان مقدم القرض في وضع أقوى أثناء المفاوضات و يهمه استرجاع ما دفع.

-تطبيق قانون البلد المقترض وتقبل الشركات بهذا لأسباب تنافسية لتوسيع نشاطها.

-تطبيق قانون السوق الذي يصدر السندات أو الأوراق التجارية وفقا لقانون البورصة.

-تطبيق قانون محايد وهذا باختيار بلد آخر غير مرتبط بالعقد المزمع توقيعه وذلك نظير تمتع هذا البلد بسمعة تجارية وقانونية ممتازة ( مثلا لوجود محاكم نزيهة وإجراءات قانونية متطورة وخبرة تجارية مرموقة ومكاتب قانونية مؤهلة وهذا قد يتمثل في اختيار القانون الانجليزي أو القانون السويسري أو اختيار محكمة العدل الدولية أو احد مراكز التحكيم الدولية أو الإقليمية أو المحلية.

-تطبيق القانون الدولي العام ( على الرغم من بعض التحفظات القانونية التي تقول أن القانون الدولي ليس قانونا international law is not law بالمعني المفهوم للقانون) أو قانون أو نظام إحدى المؤسسات الدولية مثل محكمة العدل الدولية أو المحاكم الإقليمية أو غيرها والمقصود بالقانون الدولي العام هنا، وبصفة عامة، كل تلك القوانين والمبادئ القانونية أو الأعراف السائدة  international customs المتفق والمتعارف عليها دوليا.

-تطبيق قانون مكان المفاوضات أو مكان التوقيع أو مكان السداد أو مكان عمل الأطراف أو مكان تنفيذ العقد أو جزء منه.

هذا ومن الضروري أن نذكر انه إذا تم الاتفاق بين الأطراف على تطبيق قانون معين فان هناك افتراضا قانونيا legal presumption  ( لأغراض الإثبات ) بأن هذا القانون الذي تم الاتفاق عليه يعتبر قانونا معروفا ومقبولا لدي كل الأطراف، وفي حالات معينة ربما يتم الاتفاق على تطبيق أكثر من قانون واحد أو على مزيج من قوانين محلية ودولية. وبالرغم من أن هذا يعود لرغبة الأطراف إلا انه لا يفوتنا أن نوضح بان مثل هذه الاختيارات الخاصة بعدة قوانين أو المزج بينها ربما تجد صعوبات أثناء التطبيق وأيضا في قرارات المحاكم والتنفيذ.

لقد لاحظت أن هناك من يختار قانونا للتطبيق على العقد وهو لا يعرف عن هذا القانون غير اسمه وليس لديه التفاصيل الكافية وربما يتضمن هذا القانون بعض الأحكام التي تتعارض مع مصلحته أو لا يحقق له كل ما يصبو إليه، ومن هنا يتضح ضرورة دراسة الأمر دراسة وافية قبل الاتفاق، وإذا دعي الأمر يكون من المستحسن الحصول علي رأي من القانونيين المختصين في ذلك البلد وأيضا قد يتم الاسترشاد بآراء بعض البنوك التي لها تجارب سابقة في التعامل مع هذا القانون وهذه المحاكم وهذا البلد.

والأمر الخاص باختيار القانون الواجب التطبيق يعتبر من المسائل القانونية البحتة التي يجب أن تترك تماما للقانونيين لان بعض التنفيذيين قد يتدخلون ويوجهون باختيار قانون معين بالرغم من عدم إلمامهم بمثل هذه الأمور الفنية وما قد تقود إليه في المستقبل، وإذا حدث نزاع فان القانوني سيكون في الواجهة وعليه تحقيق النتائج المرضية وتجنب الخسائر وإلا سيحدث ما لا يحمد عقباه. هناك بعض الاعتبارات التي تدخل في اختيار القانون الواجب التطبيق نذكر منها بعض الأسباب المحلية ذات الصبغة الوطنية، أو ربما مجرد التعود على نمط قانوني معين كالقانون الانجليزي مثلا أو ربما أيضا لسهولة إتباع ما هو معروف سابقا لتحاشي المصروفات التي تطلبها المكاتب القانونية أو الخوف من بذل الجهد والدخول في البحث عن قوانين أخري مناسبة وبدائل جديدة.

ونلاحظ أن معظم المؤسسات المالية الدولية تفضل إتباع قوانينها المحلية أو ما هو موجود في الاتفاقيات التي سبق أن تعاملت بها ويتم نسخها و تقديمها لكل طرف جديد   stereotypedوخير مثال على ذلك البنك الدولي حيث يصر المفاوضون على النصوص الواردة في مسودة الاتفاقيات المعدة من قبل البنك الدولي مسبقا ويتمسكون بعزل الاتفاقيات تماما عن قانون بلد المقترض وذلك خوفا من أن يتم تغيير هذا القانون بتخفيض الفائدة مثلا أو تحريمها أو تجميد سداد بعض الالتزامات الأجنبية (moratorium الموراتوريم ) لان القانون المحلي للبلد إذا كان هو القانون الواجب التطبيق فان التعديل الذي يجري عليه يصبح ساريا من الناحية القانونية، لهذا فان جميع اتفاقيات البنك الدولي وجميع المؤسسات الدولية تنص صراحة على تطبيق القانون الدولي، أي إبعاد القانون المحلي، ومن الناحية الإجرائية فان هذه المؤسسات دائما تقوم بأمر هام جدا وهو تسجيل العقد لدى منظمة الأمم المتحدة حتى تكون اتفاقية دولية يحميها المجتمع الدولي. والسؤال الذي يطرح نفسه هل نتمسك بتطبيق قانون معين – كقانون البلد والقانون الوطني مثلا – في جميع الأحوال ؟ اعتقد أن طرح هذا الموضوع للنقاش، أي المطالبة بتطبيق قانون البلد أمر مهم ومن دون شك فانه يحق لكل طرف أن يطالب بتطبيق قانون بلده على الاتفاق ولكن هذا لا بد من أن يتم بموضوعية تامة مع توضيح المزايا والنقاط القانونية التي يستند عليها الطرف، وإذا تبين أثناء المفاوضات أن هذا الطرح غير عملي وغير ممكن خاصة إذا كانت هناك حاجة للعقد لتمويل المشروعات الحيوية أو هناك ضرورة للعقد لنقل التكنولوجيا في مجالات التنقية الحديثة أو لضرورة التعاقد لأسباب فنية أو ذاتية أو بغرض المشاركة مع بنوك أخري عالمية في عقد جماعي syndicated loan agreement ، في هذه الحالات يكون من المناسب موازنة الأمر وتقدير كل حالة على حدة  according to the merits of each case   وربما بعد الدراسة الموضوعية يتم الحصول على ضمانات أو مزايا أخرى في العقد ترجح كفة قبول القانون الأجنبي أو القانون الدولي، و بهذا يكون التنازل عن القانون الوطني تم لاعتبارات فيها مصلحة للأطراف والوطن أيضا. وهناك أمثلة تحدث في عالم اليوم حيث تتنازل الصين أو روسيا مثلا عن قوانينها الوطنية لصالح القوانين الأمريكية أو الانجليزية أو اليابانية (التي كانت تعرف لوقت قريب بالقوانين الامبريالية) وغيرها لتحقيق بعض المصالح التجارية أو الاستثمارية. وللخروج من هذا المأزق أي مأزق اختيار القانون الوطني – إذا جاز لنا أن نسميه هكذا – نلاحظ مثلا أن هيئة المعونة الأمريكية، وهي الهيئة التي تقدم العون الأمريكي لدول العالم الثالث، سحبت تماما من عقودها الإشارة للقانون الواجب التطبيق واستحدثت نصا فحواه حسم المنازعات التي تنشا عند تنفيذ العقود بالتفاوض المباشر بين الطرفين. ولكن ماذا إذا لم يتم الاتفاق بالتفاوض؟ هذا قطعا يقود إلى ضرورة النص والاتفاق على القانون الواجب التطبيق.

من الناحية الإجرائية فإننا ننصح كل من يشارك في مناقشة وصياغة مثل هذه العقود الدولية أن يبدأ أول ما يبدأ بالنظرالي الأحكام والمواد الخاصة بالقانون الواجب التطبيق أو القيام بصياغتها أو إعادة صياغتها وفق ما يراه وما يتطلع إليه من مصلحة ومن ثم عرضها للطرف الآخر. نقول هذا الأمر لان هذه النقطة محورية وعليها يتم بناء هيكل العقد بين الأطراف. وعلى كل طرف أن يحدد مسار النقاش وفق ما تم أو يتم الاتفاق عليه بخصوص هذه النقطة، وإذا لم يحصل علي رغبته بخصوص القانون الواجب التطبيق فعليه الاستفادة من هذا الموقف بمطالبة الطرف الآخر بتقديم تنازلات في مجالات أخرى مثل نسبة الأرباح وفترة السداد وخلافه.

نقطة هامة أيضا لا بد من التنويه إليها لارتباطها المباشر بالقانون الواجب التطبيق وهي تتعلق بالاتفاق على منح الاختصاص للمحاكم  Jurisdiction Choice of أي تحديد المحكمة المختصة لنظر المنازعات التي قد تحدث بين الأطراف، ومن الممارسات العملية يتضح أن العديد يخلطون بين الأمرين على الرغم من اختلافهما التام عن بعضيهما ونقول انه يجب أن تتضمن العقود الدولية نصين مختلفين احدهما خاص بالقانون الواجب التطبيق والثاني بتحديد المحاكم المختصة لنظر النزاع .

إن الاتفاق على تطبيق قانون البلد المقترض مثلا لا يعني بالضرورة منح الاختصاص القضائي لمحاكم ذلك البلد ما لم يتم الاتفاق على ذلك في العقد بين الأطراف. وإذا تم الاتفاق على منح الاختصاص للمحاكم الإنجليزية فان هذه المحاكم ستكون هي المختصة بالنظر في الدعاوي والمنازعات التي تحدث وذلك وفقا للقانون الذي اتفق الأطراف عليه ليكون الواجب التطبيق وقد يكون القانون الأمريكي أو الإنجليزي.. الخ.

وكما أسلفنا فان اختيار المحاكم المختصة هو أيضا متروك لاتفاق أطراف العقد وقد يتم الاتفاق على القانون الانجليزي مع منح الاختصاص للمحاكم الفرنسية أو العكس، ولكن من الأفضل والمستحسن منح الاختصاص للمحاكم التي تطبق القانون الذي تم الاتفاق عليه وذلك لإلمامها بهذا القانون ولدرايتها بالإجراءات وتفاصيلها، وأهل مكة ادري بشعابها، هذا مع ميزات إضافية أخري منها توفير الوقت الذي سيبذل لدراسة القانون الأجنبي والمال الذي سيمنح للخبراء الذين قد يستعان بهم للمساعدة في تفسير وتوضيح القانون الأجنبي. وقد نشأت صعوبات قانونية وإدارية عديدة نظرا لتطبيق القانون الأجنبي في المحاكم وكان من الممكن تلافي كل هذه الصعوبات أو عدم الدخول فيها إذا تم التوحيد بين القانون الواجب التطبيق والمحاكم المختصة وهذا ما نوصي به، أي التوحيد، ما لم تكن هناك أسباب قوية لدي الأطراف المتعاقدة لا يمكن تجاوزها.

المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب

المؤسس والمدير التنفيذي

ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م

البحرين \ دبي