التحكيم ومنازعات الاعتمادات المستندية

ان العمل المصرفي الذي يتم يوميا وعلى مدار الساعة في ما بين المصارف من جهة والعملاء من الجهة الأخرى يعتبر متنوع الأصول ومتعدد الجوانب ومختلف الأهداف. ولهذا التشعب والتنوع وبسببه قد تحدث الخلافات بين أطراف العملية المصرفية، وقد تنقلب المودة والوئام بين الأطراف الي العداء الشديد والبغضاء. وفي مثل هذه الحالات لا بد من الحكمة والحنكة مع العلم أن المسؤولية الملقاة على كاهل ادارات المصارف في مثل هذه الأوقات تعتبر كبيرة وجسيمة وتحتاج للروية والحكمة والتدبر واللجوء للموعظة الحسنة.

Asia 728x90

وعندما تحدث الخلافات التي يصعب حلها وديا بين الأطراف، فان المصارف تجد نفسها مضطرة للجوء لبدائل أكثر فاعلية في حسم هذه الخلافات وللدرجة التي توفر العدالة المنشودة التي تحفظ حقوق الأطراف خاصة المصارف التي يتوجب عليها الحرص على أموال المودعين أولا وكذلك حملة الأسهم وغيرهم من المستثمرين المتعددين.

في هذا الخصوص، وكأحد البدائل المناسبة والمقبولة لتسوية المنازعات، نجد أن التحكيم التجاري يلعب دورا كبيرا في تسوية المنازعات المصرفية المعقدة وذلك عبر مراكز التحكيم المؤسسي. ومن دون شك، فان مركز التحكيم التابع لغرفة التجارة الدولية بباريس يعتبر من أهم مراكز التحكيم المؤسسي علي نطاق العالم وخاصة في المنازعات المصرفية. وللعلم، فان نشاط الاعتمادات المستندية المصرفية يعتبر من أهم النشاطات المصرفية ويتم عبر القواعد والأعراف الدولية الموحدة للاعتمادات المستندية (يو سي بي) التي أصدرتها غرفة التجارة الدولية، وكذلك تعيد اصدارها كلما كانت هناك ضرورة. أي أن غرفة التجارة الدولية تعتبر ذات الاختصاص لهذه القواعد. وأنشأت غرفة التجارة الدولية “المركز التحكيمي” ومنحته أهمية خاصة وعناية كبيرة، إيمانا منها بأهمية تسوية المنازعات التجارية الدولية حتى يعم الرخاء والتقدم والسلام كل أرجاء المعمورة. وهكذا الحال، لتظل التجارة تلعب دورها الهام المحوري في تطوير العلاقات بين كل الدول والمجتمعات والشعوب بمختلف أفكارهم وتوجهاتهم لأن الجميع بدون فرز يحتاج لهذه التجارة ومنتجاتها في كل الأوقات.

وكما هو معلوم، فان المصارف تقدم العديد من الخدمات المصرفية المتنوعة للعملاء وعلى حسب طلباتهم ومقدراتهم اضافة لطبيعة العلاقة مع المصرف المعني. ومن الخدمات المصرفية الهامة جدا، نجد خدمة الاعتمادات المستندية التي تتم لتكملة مسار العمليات التجارية الدولية من استيراد وتصدير وخلافه. ومعظم التجارة العالمية

تقريبا تنساب وتتم عن طريق القنوات المصرفية المتعددة حيث يتم تمويل التجارة العالمية وتسهيلها عبر القيام بتقديم وفتح واعتماد وتأييد الاعتمادات المستندية والضمانات المصرفية والتسويات بمختلف أنواعها. وفي كل يوم وعلي رأس الساعة تتحرك مليارات الدولارات وملايين الأطنان من البضائع ويزدحم الأفق بكل أنواع الخدمات المطلوبة، وكل هذا يتم عبر تداول وقبول الاعتمادات المستندية (قبول المستندات فقط) بين العملاء والمصارف من جهة و في ما بين المصارف نفسها من الجهة الأخرى، نظرا لأن المصارف تحتاج لبعضها في هذه الخدمة المتداخلة دائما بين عدة دول. وهكذا عبر المصارف وخدماتها المتميزة تنمو التجارة العالمية، وهكذا تتحقق الأرباح للعملاء والمصارف، وهكذا وعبر هذا النشاط التجاري المصرفي يجد المستهلك أمامه كل ما يبحث عنه من متطلبات يومية ومنتجات أساسية لحياته.

ومن الجدير بالذكر أن غرفة التجارة الدولية بباريس هي الجهة التي قامت وظلت تقوم، وبكل كفاءة، بإصدار التعليمات والأنظمة واللوائح الموحدة التي تنظم كل ما يتعلق بالاعتمادات المستندية والضمانات المصرفية والسداد والتسويات وذلك عبر لجانها الفنية المختلفة التي تعمل جاهدة علي مدار العام لتحقيق هذا المرام المأمول. والفضل الكبير في هذا الخصوص يرجع لما تقوم به غرفة التجارة الدولية. وفي ردهات الغرفة يتم دراسة وتقييم اللوائح والأنظمة الخاصة بهذه النشاطات المصرفية الهامة وذلك وفق كل المستجدات والممارسات التجارية التي تتم علي أرض الواقع، ليتم معرفة الصعوبات والمشاكل ولتقديم البدائل الفنية المقبولة. وكل هذا حتى يستمر دولاب التجارة الدولية في الاستمرار دون توقف ويعم الرخاء كل الربوع. مع العلم أن للمصرفيين والماليين والقانويين (ولقد شاركنا فعليا في هذه الاجتماعات) دور كبير جدا وهام للغاية في مساعدة الغرفة لتقنين هذه النشاطات المصرفية الهامة، وهذا التقنين مستمر لملاحقة التطورات المصرفية وأساليب التجارة الدولية المتجددة..

ومنذ فترة من الزمن، قامت غرفة التجارة الدولية بإصدار نظام خاص للتحكيم في المنازعات التي تطرأ بين الأطراف عند استخدامها للوائح المنظمة للاعتمادات المستندية والضمانات المصرفية وكذلك أنظمة التسويات الموحدة بين المصارف وأنظمة التحصيل الموحدة… وغير هذا مما له علاقة بالاعتمادات المستندية. ونظام التحكيم المعني خاص بالتحكيم في المنازعات الخاصة بهذه المعاملات المستندية فقط، ولا يتعداها أو ينظر في غيرها وإلا تجاوز الاختصاص ويسقط من الناحية القانونية بسبب عدم الاختصاص. ونظام التحكيم هذا الصادر من غرفة التجارة الدولية بباريس يسمي اختصارا “دوكدكس”.

كما نعلم فان من مميزات التحكيم العامة أنه يوفر هيئة تحكيم من كفاءات متخصصة للنظر في المنازعات الفنية والمهنية وذلك لتوفير التخصص الفني مع سرعة الفصل في

النزاع. ومعظم المنازعات التي تنشأ من هذه الخدمات المصرفية المستندية، تعتبر من المنازعات ذات الصفة الفنية البحتة التي تحتاج لهيئات فنية، وليس محاكم قضائية، للنظر في أمر تسويتها وحسمها نهائيا عبر اصدار قرارات نهائية يتم تنفيذها فورا، وهذا ضروري حتى تستمر المعاملات المصرفية و التجارية بين الأطراف. ووفق نظامدوكدكسللتحكيم، يجوز لأي طرف أن يتقدم بطلبه (الشكوى) إلي غرفة التجارة الدولية متضمنا تفاصيل الشكوى وما يطلبه من الطرف الآخر من حقوق أو خلافه. تقوم غرفة التجارة الدولية بإحالة هذه الشكوى إلي هيئة خبراء (ثلاثة خبراء) يتم اختيارهم عبر لجنة الممارسات المصرفية التابعة لغرفة التجارة الدولية. وكقاعدة عامة يشترط في هؤلاء الخبراء التزام السرية والاستقلالية التامة وتجنب تضارب المصالح. ويجب ألا يفوتنا أن نذكر أن لجنة الممارسات المصرفية التابعة لغرفة التجارة الدولية تضم خبراء مصرفيين وقانونيين وتجار من المستوردين والمصدرين، وكل هؤلاء الخبراء من المتمرسين في هذا العمل وعلي دراية كافية بكل تفاصيله وأسراره.

تقوم هيئة التحكيم وفق نظامدوكدكسوالمكونة من لجنة الخبراء الثلاثة باستلام الشكوى وإحالتها للرد عليها ويتم تداول الطلبات والردود والإضافات بين الأطراف (قد يتم مثولهم أمام اللجنة) عبر إجراءات هيئة تحكيم ال دوكدكس“. وكل هذه الإجراءات تتم وفق تواريخ محددة يجب الالتزام التام بها لأن فلسفة التحكيم تقوم علي سرعة الفصل. وبعد الاطلاع علي الوقائع وأنظمة غرفة التجارة المنظمة للاعتمادات المستندية وغيرها من الممارسات المستندية تقوم لجنة الخبراء، وفي خلال فترة لا تتعدي 30 يوما، بتقديم مسودة قرارها التحكيمي إلي المركز. وبموجب نظامدوكدكسيجوز للمركز الاستعانة برأي الخبير الفني التابع للجنة الممارسات المصرفية والتشاور معه قبل إصدار القرار النهائي (وللتشبيه فقط، هذا الوضع مماثل لما تقوم به المحاكم الاستئنافية في القضاء).. وكل هذا ليتم ضمان تحقيق أعلي درجة من العدالة المهنية للوصول إلي الرأي الفني الأصوب والعادل وفق الأنظمة الصادرة من غرفة التجارة الدولية بباريس. وبعد صدور القرار النهائي يخطر الأطراف ويتم وضع النسخة الأصلية من القرار النهائي الصادر من لجنة الخبراء (هيئة التحكيم) في مركز التحكيم بالغرفة وذلك لمدة عشر سنوات، ويمكن الاستفادة من هذا الحكم كسابقة في المنازعات ذات الطبيعة المماثلة، بل قد يتم الاستفادة منه في تعديل اللوائح الصادرة من غرفة التجارة الدولية إذا لزم الأمر..

وهكذا تتطور الأنظمة والممارسات المصرفية والعلاقات التجارية الدولية لتحقيق الفائدة للجميع. وهكذا تظل غرفة التجارة الدولية، وبدعم من المصارف والمصرفيين والقانونيين المحترفين، رائدة في تطوير العمليات التجارية المصرفية وذلك عبر كل الوسائل المتوفرة بما في ذلك استحداث الأنظمة المتطورة لحسم المنازعات بين الأطراف عبر اللجوء للتحكيم بنظام الدوكدكسالمهني السريع. وعلي مصارفنا وتجارنا بمختلف

قطاعاتهم، عند الحاجة، الاستفادة من هذا المنفذ التحكيمي المتطور تحقيقا للعدالة لجميع الأطراف، وفي ظل العدالة تتطور المعاملات وتطمئن كل النفوس للتعامل مع أي مكان وفي أي زمان… وعبر هذا النظام المتطور لحسم المنازعات المتعلقة بالاعتمادات المستندية، يتاح للمصارف وللعملاء أسرع السبل للوصول للعدالة الناجزة التي يتطلع لها الجميع. وهكذا يكون لصناعة التحكيم دور بارز في دعم الخدمات المصرفية الدولية.

المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب

ع \ د. عبد القادر ورسنه للاستشارات ذ.م.م

البحرين \ دبي