اتفاقية تدابير الاستثمار المتصلة بالتجارة

ان أمور وعلاقات التجارة الدولية لا تخلو من المصاعب والشد والجذب بين مختلف الدول لأن كل طرف يبحث عن مصالحه. وفي السابق نشبت حروب وخلافات وصراعات عميقة بسبب التجارة وما يتعلق بها. وبالرغم من الحاجة الماسة للعلاقات التجارية والاستثمارية بين الشعوب الا ان ترموميتر الحرارة غير ثابت في الطلوع والنزول. ونلاحظ من مدة أن معظم الدول بدأت تتخذ العديد من الاجراءات لحماية الاستثمارات والنشاطات التجارية المحلية، وتحقيقا لهذا الغرض فأن الحكومات تقوم بفرض شروط أو سياسات معينة على المستثمرين الأجانب عند استثمارهم داخل البلد. وهذا الأمر جائز وفقا لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية (دبليو تي أو)، التي تطالب بها كل الدول وتسعى جاهدة للانضمام اليها بالرغم مما فيها من بعض المآخذ حتى من الدول الغنية.

Asia 728x90

تهدف الشروط والاجراءات التي تفرضها الدول، في واقع الامر، الى دعم وتشجيع الاستثمارات الاجنبية ولكن وفقا للاستجابة لبعض المعطيات المحلية الخاصة بكل بلد، او لنقل، وفقا للأولويات الوطنية المحلية. والشروط أو السياسات التي تضعها الدول، في حقيقة الامر، تعمل من أجل التزاوج بين الاستثمارات بنوعيها المحلي والاجنبي وفقا لسياسات الدولة وبما يخلق الجو المناسب لتعايش “وجهي العملة” من أجل دعم الاقتصاد الوطني وفق الرغبة المحلية الذاتية. ونظرا لأن الشروط التي تضعها الدول لحماية التجارة والاستمارات المحلية، وكحقيقة واقعة، تؤثر على التجارة العالمية ومجرى سريانها الاعتيادي وتنازع اللآراء بين الدول، لذا فقد تم وضع اتفاقية دولية خاصة لهذا الغرض وهي (اتفاقية تدابير الاستثمار المتصلة بالتجارة – والمعروفة اختصار ب “ترميز”.

كخلفية تاريخية فإن هذه الاتفاقية، ترميز، تم وضعها والاتفاق عليها في جولة اوروجواي، والغرض الواضح من اتفاقية ترميز هو دعوة البلدان الأعضاء في منظمة التجارة العالمية الى العمل على الغاء كل التدابير الاحترازية المتعلقة بالاستثمارات داخل الدولة والتي قد تؤثر على سير التجارة العالمية وتدفقها الحر، خاصة اذا كانت هذه التدابير (المحلية) لا تنسجم مع قواعد الجات، هذا مع العلم أن اتفاق ترميز ينادي بأن يتم الغاء المطلوب وفق مراحل زمنية تم تحديدها في الاتفاق. ووفقا لاتفاق ترميز فان الفترة الزمنية الممنوحة للبلدان الغنية لإلغاء التدابير أو الاجراءات المحلية تمتد لسنتين بينما الفترة الممنوحة للبلدان الفقيرة أو البلدان النامية تتراوح ما بين خمس وسبع سنوات.

عندما بدأت المفاوضات في جولة اوروجواي قدمت الولايات المتحدة الامريكية اقتراحا بضرورة العمل على وضع ضوابط دولية للحد من تدابير الاستثمار الاحترازية وفق اتفاق ترميز التي تتخذها الدول، وبصفة خاصة اذا تبين أن لهذه الضوابط أثر مباشر في اعاقة التجارة العالمية وتدفق سريانها بصورة طبيعية، أي بما يناقض مبادئ منظمة التجارة الدولية. وفي نفس الجولة من المفاوضات اقترحت امريكا أن تتم مناقشة السياسات المحلية التي تتخذها بعض الدول وتؤثر على تدفق الاستثمارات الاجنبية المباشرة وضرورة النظر في جدوى تطبيق أنظمة الجات المتعلقة بالمعاملة الوطنية وخاصة تلك التي تمنح الشركات الاجنبية نفس الحقوق الممنوحة للشركات المحلية فيما يتعلق بالاستثمار واقامة النشاطات او العمليات الاستثمارية المحلية. وجدت الاقتراحات الامريكية ترحيب الدول الغنية والصناعية وبالطبع عدم القبول من معظم دول العالم خاصة الفقيرة ودول العالم الثالث. وفي اثناء جولة اوروجواي ردت الدول النامية والدول الفقيرة على المقترحات الامريكية بأن اتفاق الجاث لم يسمح ببحث قضايا  الاستثمار ولم يتناولها أو يتطرق اليها، وأن هذه القضايا ومن الناحية القانونية تقع خارج اختصاصه، وأنه اذا كان لا بد من فتح هذا الباب فإن المفاوضات يجب أن تشمل وتغطي أيضا تلك المصاعب المفروضة على التجارة العالمية من قبل الشركات عابرة القارات خاصة وأن تلك الشركات تلجأ الى بعض الممارسات الغير مقبولة والتي تفرض “كرها وجبرا” على الدول النامية والفقيرة ورغم أنفها.

والسؤال الذي يطرح نفسة الآن، ما هي تدابير الاستثمار المتصلة بالتجارة؟

كما سبق أن أشرنا فأن الدول، ورغبة منها في تشجيع الاستثمارات الأجنبية، تقوم بوضع القوانين لتقديم الحوافز المادية وغيرها لاستقطاب وجذب هذه الاستثمارات الأجنبية ذات الفائدة والمردود الاقتصادي، ومن ضمن هذه الحوافز الاعفاء الجمركي والضريبي لمدخلات الانتاج والانتاج نفسه، وتقديم الأراضي لاقامة المشاريع وغيرها من الخدمات الضرورية على أسس خاصة وتفضيلية. ولكن القوانين لا تقف عند هذا الحد لأنه اضافة لمنح الامتيازات فان الحكومات تضع بعض الشروط الخاصة على الاستثمارات الأجنبية وذلك طبقا لبعض الأولويات الوطنية والمحلية. ومن الأمثلة لهذه  الأولويات النص في القوانين على أنه يتوجب على الشركات الأجنبية التعهد أو الالتزام باستخدام قدر معين من المدخلات المحلية في الانتاج الخاص بالمشروع الاستثماري للشركة الاجنبية، كاستخدام المواد الخام المحلية واستخدام العمالة الوطنية وتدريبها لتتمكن من احلال العمالة الأجنبية في المستقبل المنظور وتغطية نسبة من الاستهلاك المحلي والمساهمة في تنمية المجتمع المحلي مثل دعم التعليم والصحة واصحاح البيئة و دعم المشاريع التي تهدف لتطوير مقدرات الشباب من الجنسين …الخ.

مثل هذه الشروط القانونية، لأنها تكون مضمنة في العقود، والتي تضعها الحكومات تعرف بتدابير الاستثمارات المتصلة بالتجارة – ترميز – وهذه الشروط تجد معارضة من الشركات الأجنبية لأنها حسب قولهم تحرمهم من تحقيق كل تطلعاتهم “الذاتية” وتقلل من الاستفادة من الارباح بالطريقة “الانانية” التي يرونها ويبحثون عنها وفق أولوياتهم. ومن الجدير بالذكر أن البلدان النامية أو دول العالم الثالث تعتبر من أكثر الدول استخداما لتدابير الاستثمار المتصلة بالتجارة العالمية بغرض تحقيق سياسات محلية واهداف تنموية محدودة، وعلى سبيل المثال فإن هذه الدول تسعى الى تحقيق النمو في صناعتها المحلية وذلك عن طريق فرض استخدام المكونات المحلية والسماح بالتوسع في التصدير مع اشتراط الأداء التصديري في الوقت نفسه. وفي حالات عديدة، كانت هذه التدابير “رد فعل” من الدول النامية وكان المقصود منها التعامل كردود افعال للممارسات التجارية التنفيذية والاستعلائية التي تتبعها المؤسسات التجارية عبر الوطنية والشركات عابرة القارات (ترانسناشونال كمبنيز) ذات الطوح والمطامع الكثيرة.

يحظر الاتفاق بشأن تدابير الاستثمار المتصلة بالتجارة على البلدان الأعضاء في الاتفاقية استخدام عدة تدابير استثمارية متصلة بالتجارة نظرا لأن هذه التدابير حسب الاتفاق غير منسجمة مع قواعد اتفاقية الجات الخاصة بالمعاملة الوطنية، وكذلك القواعد التي تحظر استخدام القيود الكمية. وان التدابير المحلية تعطي أفضلية للمنتجات المحلية بما يخالف مبدأ المعاملة الوطنية، وحتى يتم حظر هذه التدابير يجب أن نشترط التالي:

  • الإلزام بأن يكون شراء أو استخدام منتجات مستوردة من جانب مؤسسة ما، للشركات الأجنبية، مرتبطا بحجم او قيمة المنتجات المحلية التي تقوم بتصديرها أو ما يعرف بمتطلبات “التوازن التجاري”.
  • التدابير التي تقلص الواردات للشركات الاجنبية الى كمية مرتبطة بكمية أو قيمة المنتج المصدر ومتطلبات التوازن التجاري التي تكون بدورها قيودا على الواردات لأنها غير منسجمة مع أحكام المادة (الحادية عشرة) من اتفاقية الكمية على الواردات والصادرات.
  • التدابير التي تحد الحصول على النقد الأجنبي الذي تحققه المؤسسة أو الشركة الاجنبية.
  • التدابير التي تحد الصادرات من الشركات الاجنبية بالنسبة لكمية أو قيمة الانتاج المحلي. مع العلم، أن الصراع عول هذه التدابير ما زال محتدما للتغيير أو التعديل أو الالغاء، وكل يبحث عما يحقق آماله وتطلعاته السياسية والتجارية والاستيراتيجية.

من الواضح أن الصراع التجاري بين طرفي دول العالم سيستمر وهذا يحتاج الى أن تقوم الدول النامية بالتنسيق فيما بينها من اجل توحيد موفقها تجاه مفاوضات التجارة الدولية، التي لم تراوح مكانها في الكثير من الحالات، وذلك للحصول على “أفضل” الأوضاع ولمنع الاستغلال الجائز لثرواتها بواسطة الشركات العالمية التي تسعى لتحقيق مصالحها دون مراعاة لتطوير الشعوب والمناطق التي تعمل فيها. وهناك من يقف مع فتح الأبواب للشركات “المثالية” اذا جاز استخدام هذه الكلمة، التي تستقيد و في نفس الوقت تفيد الشعوب لأن الأمر يحتاج الى التوازن بين مصالح الشركات والاستثمارات الأجنبية من جهة وما تجنية الشعوب والدول من الاستثمارات الأجنبية من الجهة الأخرى. وكما يقولون “التجارة شطارة” وبعض الدول النامية أصبحت تعرف كيف تحقق الفائدة لشعوبها لتطوير مقدراتهم ومن أجل رفاهيتهم. ونأمل السير في هذا الاتجاه لتحقيق نوع من التعامل الشريف بين الأنداد وليس القوي في مواجهة الضعيف، خاصة وأن كل طرف يحتاج للآخر وكل طرف جزء من الكل ويكمل الكل. ووقف الصراع والتنافس، سيجعل التجارة أكثر مرونة وانتشار ويخفض الأسعار مما يشجع الاستهلاك وتنمية العلاقات بين الشعوب. ولنأخذ هذا في الاعتبار للأهمية من الناحية المادية والمعنوية.

المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب

المؤسس والمدير التنفيذي

ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات البحرين