يلعب الانترنت وكل وسائل ثورة تقنية المعلومات أدوارا أساسية في كل مناحي الحياة العصرية، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالمعاملات التجارية والأعمال الدولية وكذلك الأمور الشخصية العامة، حيث تتم المفاوضات وتبرم الصفقات وتسدد الأموال وتصفي الحسابات والعلاقات وغيره من العمليات الهامة والعاجلة سواء العامة أو الخاصة . وكل هذا يتم في هدوء تام، عبر الانترنت ووسائل التقنية الالكترونية التي اصبحت متوفرة في كل مكان والجميع يتعامل بها ومعها وعبرها بكل سهولة لا تتعدي “كبسة زر” في الجهاز الذي تستخدمه. وهكذا، أصبح الجميع في مكان واحد وأصبح العالم الكبير قرية صغيرة تصلها في زمن خارج الزمن التقليدي بل في لا زمن يقاس .. وليس هناك أبدع من هذا العلم المتطور، وفوق كل ذي علم عليم… وما أوتيتم من العلم الا قليلا .. وسبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
وعبر هذه التقنية الالكترونية، طوعنا الكثير من الممكن ومن ال “لا” ممكن لكن بسماح سلطان الخالق العالم العليم. وفي كل يوم، نصل لعوالم أرحب وأعمق بسبب العلم والتقنية وتتطور حياتنا ومداركنا وبالتالي معاشنا ومعيشتنا، بفضل الله وكرمه. ولكن، قد تأتي الرياح بعكس ما نرغب، وهناك بعض الجوانب السلبية السيئة لهذه الطفرة الالكترونية الثورية التي قد نتضرر منها. ومن ضمن هذه السلبيات نجد، جرائم انتهاك الخصوصية والتعدي والتطفل والابتزاز والسرقة وغيرها من جرائم السايبر الالكترونية التي تتم في خفاء وتخفي عبر الأثير، والتي يتعرض لها كل من يستخدم الانترنت وكافة وسائل التقنية الالكترونية.
وهذا الانتهاك والتعدي علي الخصوصية والتطفل والابتزاز والاجرام، قد يتم لأي سبب وفي أي زمان وأي مكان، وقد يسبب مضايقات شخصية عديدة لا تحصي وقد يسبب خسائر معنوية ومادية كبيرة فادحة، وقد يهدد الأعمال التجارية ويعرضها للخسائر والانهيار والدمار وقد يقطع العلاقات الحميمة..
وهذا، بكل أسف، قد يحدث لأي شخص ولأي شركة كبيرة أو صغيرة وليس هناك ما يمنعها عنك طالما أنت أو غيرك تستخدمون الانترنت وإخوانه واخواته، وحتى لو كنتم في بروج مشيدة ومحصنة. ويا للحسرة، لأن الحماية الوحيدة تكمن في الابتعاد التام عن التقنية واستخداماتها، فهل نستطيع ذلك؟ ونحن في عصر التقنية. بالطبع لا، لأنها أصبجت جزء من الهواء الذي نتنفسه وجزء من المشاعر التي تكتنفنا.
ولمقابلة هذا الواقع المرير والتعامل معه، ظلت الدول تصدر القوانين وتعدل التشريعات وتعمل باستمرار ليل نهار، علي تنقيحها وتفعيلها وتقويتها وتطويرها لمحاولة مجاراة الواقع… وكذلك ظلت الشبكات والمنظمات الدولية في نشاط دؤوب وتتحرك وتصدر المواثيق والمعاهدات ذات العلاقة. وكل هذا من أجل وضع الحدود لحماية الخصوصية، ولردع كل من يتجاوز هذه الحدود ويتعدى عليها “تريسباص”. ولكن الصراع المحتدم لحماية الخصوصية سوف لن ينتهي لصالح طرف دون الآخر بل سيستمر هذا الصراع للأزل وذلك بحكم الطبيعة البشرية ودواخل النفس الأمارة بالسوء. الا ما رحم ربي.
ما قادنا الآن للتطرق لهذا الموضوع القديم الجديد، الساخن الهامد، ذلك الحكم الذي أصدرته قبل فترة “محكمة العدالة الأوربية العليا”، التي تمثل أعلي قمة السلطة القضائية لدول الاتحاد الأوربي. وهذا الحكم متعلق بالخصوصية المرتبطة بالإنترنت والتقنية الالكترونية ومعيار هذه الخصوصية ومداها، حيث قضت المحكمة وقالت بأعلى صوتها، بأن “المعيار الأمريكي” لحماية الخصوصية لا يرقي لمستوى “المعيار الأوربي” التي تنتهجه الدول الأوربية عبر القوانين والأنظمة الصادرة من الاتحاد الأوربي.
وتعود التفاصيل الخاصة بهذه القضية الي الاتفاق الخاص الذي تم ابرامه بين دول الاتحاد الأوربي من جهة وأمريكا من الجهة الأخرى، وذلك نظرا لكبر حجم وكثافة التبادل التجاري والمصرفي والاستثماري عبر الأطلنطي في ما بين دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. ولقد تنبه الجانبان الي أهمية دعم المعاملات الالكترونية بينهما لتسهيل التواصل والتمازج والتكامل في كل النواحي بينهما خاصة وأن التجارة والأعمال والاستثمارات تتجاوز مليارات المليارات وفي ازدياد مضطرد. ويهدف هذا الاتفاق الخاص لتقوية العلاقة وتأطيرها، ولكن وفق ضوابط قانونية معينة تعمل علي تثبيت العلاقة وفي نفس الوقت أيضا لتوفير ومراعاة ما يكفل سلامة المعاملات والأشخاص والشركات بل والدول المعنية. وبصفة خاصة، لاصباغ وكفل الحماية الكافية للخصوصية التي يحترمونها بل يقدسونها احتراما “لقيمة الانسان” عندهم. مع عمل “الموازنة” حتي لا تتعرض الخصوصية للانتهاك والتعدي في خضم الحركة القوية المتدفقة بنشاط عبر المحيط الأطلنطي وكل ما يعبره..
وفي هذا الخصوص، تم الاتفاق بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية علي معيار معين يتم استخدامه لحماية الخصوصية وخصوصية البيانات المتداولة في ما بينهما وتم تسمية هذا المعيار المتفق عليه، بمعيار “المرفأ الآمن – سيف هاربور”، ويجب علي الجانب الأمريكي الالتزام بهذا المعيار ولتبيين الالتزام بالمعيار الأوربي لأمريكا وفق مبدأ “المرفأ الآمن” في بحثهم الجاد عن “.. آمنهم من خوف” وهذا قمة الأمان. ولكن وبالرغم من الوصول للاتفاق، الا ان جهات عديدة في أوربا ظلت تنتقد مبدأ “المرفأ الآمن – سيف هاربور” نظرا لأنه لا يقدم لهم الحماية الكافية التي يعايشونها وفق الضوابط والمعايير الأوربية والتي شكلت ثقافة متجذرة ومنهج ثابت في حياتهم اليومية. وهل نقول هذا صراع حضارات أو تناطح سياسات؟ كل هذا جائز، لكن ما يهمنا هنا هو القانون ووضع القانون.
في الواقع، تقدم مواطن أوربي بطلب للجهات المختصة ثم رفع دعوي أمام المحكمة في ايرلندا يطلب عدم السماح بنقل البيانات والمعلومات الخاصة به عبر ال “فيسبوك ايرلندا” الي أمريكا استنادا لمبدأ “المرفأ الآمن” المبرم بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. وقال المدعي أن الوضع في أمريكا غير سليم ويعرض خصوصيته للمخاطر وأن ما تم الكشف عنه قبل فترة بواسطة ال “ويكيليكس” وفضائح “سنودن” يوضح عدم وجود الحماية الكافية للبيانات الالكترونية والمعلومات الشخصية في أمريكا وأنها قد تكون عرضة للانتهاك والانكشاف وما يتبع ذلك من أضرار.
أي أن المدعي يستند الي أن البيانات والمعلومات المنقولة لا تتمتع بالحماية الكافية في أمريكا “لدرجة الاطمئنان للتعامل معها” في ظل “سرية تامة” و”بمعايير أمنية كافية ورادعة للمتطفلين” ومنتهكي الخصوصية، وهم كثر لا عدد لهم، وهو لا يقبل هذا الوضع، وبالطبع هذا من حق المدعي وكل أوربي. ووصلت القضية الي المحكمة العليا بإيرلندا، والتي بدورها أحالتها لمحكمة العدالة الأوربية العليا بصفتها صاحبة الاختصاص في تفسير قوانين الاتحاد الأوربي، ولإصدار القرار الملزم للاتحاد الأوربي بخصوص معيار “المرفأ الآمن” المبرم مع الولايات المتحدة.
وبعد سير الاجراءات، أصدرت محكمة العدالة الأوربية العليا قرارها ضد معيار “المرفأ الآمن” الذي تم الاتفاق عليه، وحكمت بعدم صلاحيته وكفايته لأنه لا يوفر الحماية الكافية للخصوصية التي ينشدها “الطرف المقيم” في دول الاتحاد الأوربي. وهذا القرار القوي ملزم للاتحاد الأوربي وهكذا يسود حكم القانون علي الجميع، وهكذا بسبب فرد واحد تقول المحكمة أن الاتفاق الذي يمثل الملايين من مختلف الشعوب غير صالح وغير كاف، وأنه يجب أن يتم اعادة النظر في “اتفاق قاري” بين عدة دول في قارات مختلفة. ويا سلام على العدالة وسيادة القانون النافذة بقوة القانون. واستنادا لهذا القرار وانصياعا له قام الاتحاد الأوربي بمراجعة موقفه من مبدأ “المرفأ الآمن” وتم تقديم مقترحات جديدة للولايات المتحدة وحرصا علي استمرار العلاقة الأزلية عبر الأطلنطي تجري المفاوضات بشدة وبحنكة لوضع البدائل التي تضمن حسن العلاقة بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وكل هذا لوضع أسس سليمة لتحقيق صيانة تامة للخصوصية الخاصة وبما يرضي طموح الجميع.
وكل هذا يتم الآن بحرفية ومثالية وفي احترام تام بين الجانبين، من أجل الوصول لتقديم الأمثل لحماية الخصوصية في ظل ثورة المعاملات الالكترونية وزخمها الذي يملأ ليس الأطلنطي فقط بل كل محيطات العالم وكل أقطاب التجارة العالمية وصناع التقنية الالكترونية الحديثة. وما حدث بسبب فرار المحكمة يجعلنا نقول، لنعمل يدا واحدة في كل مكان للاستفادة من الثورة التقنية مع مراعاة أن يتم هذا حنبا الي جنب مع سيادة القانون وحماية الخصوصية بسياج قانوني قوي متكامل. وهذا قطعا في الامكان الممكن اذا توفرت الارادة والتمسك بروح القانون من أجل “حرمة” الانسان الذي كرمه الخالق الكريم وفضله على سائر مخلوقاته. ولنرتقي بالتقنية لنحقق حياة صحيحة ومفيدة وصالحة للحياة الدنيا. ونقول رب ضارة نافعة، لأن فضائح ال”ويكيليكس” وما اشتم منها بعد نشر الغسيل الوسخ على الملأ قاطبة، كانت السبب المباشر في هذا الحكم الجوهري لصالح “خصوصية” الانسان و”حرمة” الانسانية جمعاء..
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات البحرين \ دبي