رغم الخبرات المكتسبة من آلاف القضايا التي شملت تحقيقات الاغراق ودعاوي الاغراق وأحكام المعونات التي تفضي الى الاغراق وفرض الرسوم التعويضية المرتبطة بالاغراق، الا ان الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية لم تستفد من تلك الخبرات في انجاز اتفاقية مثالية حول محاربة الاغراق، لأن المصالح والأفكار مختلفة وفي تباين شديد. وهذا يعقد المشكلة.
تجري المفاوضات المكوكية والمهمة حول مكافحة الاغراق منذ أكثر من عشرات السنوات وتحديدا منذ التوصية الصادرة عن جولة الدوحة في 2011 للنظر في اعادة صياغة أحكام محاربة الاغراق لتكون أكثر واقعية وتتدثر بمبادئ العدالة. وبسبب بطء المفاوضات، أو لنقل عدم الجدية، سبق أن أوصى المؤتمر الوزاري في هونج كونج عام 2005 بتكثيف وتسريع عملية التفاوض، واعداد نصوص موحدة لاتفاقية مكافحة الاغراق والاعانات كي تكون أساس المرحلة النهائية لهذا الأمر لمصلحة التجارة العالمية ومن يدور حولها، ونعلم أن انتعاش التجارة سيجلب تقارب وجهات النظر وهذا بدوره سيقود الي التوافق السياسي والأمن العالمي.
للتوضيح لمعنى الاغراق، نقول، ان الاغراق يحدث اذا قامت شركة ما بتصدير منتج بسعر أدنى من سعر تكلفة انتاجه، وألا يكون البلد المستورد منتجا لهذه السلعة وحتى اذا كان منتجا لها عليه اثبات أن وارداته من هذا المنتج تضر أو تهدد بالحاق ضرر بمنتج مماثل تنتجه الصناعة المحلية أو اذا كان هناك دعم حكومي للمنتج. عند حدوث أي من هذه الشروط فقط يمكننا القول أن هناك اغراق تجاري “دمبنق”، وليس عندما نرى بضائع معينة مكدسة في الأسواق، مثلا من الصين أو كوريا أو غيرها، وأينما نتوحه ونقول تم اغراقنا خاصة في دول الخليج حيث الاستهلاك العالي جدا. والتساؤل المطروح هو هل هذه الممارسة منافسة غير مشروعة؟ هل الاغراق التجاري عمل تجاري غير شريف يجب محاربته أو الحد منه بكل الوسائل؟
وببساطة نقول، تختلف اللآراء حول هذا الأمر، خاصة وأن اتفاقية منظمة التجارة العالمية لا تنص على أحكام فنية صارمة وواضحة حول الاغراق، بل تتحدث عن حق الحكومات في فرض رسوم الاغراق عندما يوجد ضرر حقيقي ومادي للصناعة المحلية. وهنا تكمن المشكلة لأن كل دولة تنظر لهذا الأمر من منظورها الخاص وحسب النظارة التي تلبسها.
ومن أجل أن تتمكن الدولة المتضررة من فرض رسوم محاربة الاغراق يجب أن تكون قادرة على اظهار أن الاغراق قد حصل فعلا وأن تحسب مدى الضرر المادي للاغراق وأثاره الضارة. وهناك عديد من الطرق لحساب ما اذا كان منتج معين قد تم اغراقه بشدة أو بصورة طفيفة. الملاحظ أن اتفاقية مكافحة الاغراق تضيق من نطاق الخيارات الممكنة،
وتوفر الاتفافية ثلاثة طرق لحساب “القيمة العادية” للمنتج. حيث يستند بعضها الى سعر المنتج في السوق المحلية وفي الدولة المصدرة، والآخر الى الأسعار التي يبيع بها المصدر في البلدان الأخرى أو العملية الحسابية التي تستند الى الجمع بين تكاليف الانتاج التي يتحملها المصدر والمصروفات الأخرى وهوامش الربح الاعتيادي.
وتحدد الاتفاقية أيضا كيف يمكن اجراء مقارنة بين سعر التصدير وما يمكن أن يكون سعرا عاليا. لكن الاتفاقية لا تقدم طريقة رياضية محددة لحساب فارق سعري المنتج (فارق السعر بين السوق المحلية وسوق التصدير) وعلاقة هذا الفارق بمستوى المعيشة وسعر صرف العملة المحلية في البلدين أو عدة بلدان. اضافة لذلك لا تنظم الاتفاقية أعمال الشركات التي تقوم بالاغراق بل تركز على كيفية رد فعل الحكومات أو افتقار رد فعلها على الاغراق الذي قامت به واحدة من شركاتها.
هذه الثغرات وغيرها هي التي تثير وبشكل متواصل المزيد من الجدل داخل منظمة التجارة، مما أدى الي تباين المواقف واختلاف التفسير وبالتالي الاختلاف في التطبيق لأحكام الاتفاقية. والاتفاقيات الدولية يجب أن تكون فاصلة ومحددة، والا انفرط العقد.
هناك أكثر من آلاف التحقيقات لمحاربة الاغراق التي أطلقتها الدول الأعضاء منذ أن ظهرت المنظمة الى الوجود في 1995، ومن التحقيقات نجد البلدان المتقدمة خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي واليابان استخدمت اجراءات مكافحة الاغراق. ولكن، من الملاحظ، أن بعض الاقتصادات الناشئة زادت هي الاخرى في لجوئها الي اجراءات مكافحة الاغراق خاصة الهند وجنوب افريقيا والارجنتين والصين وغيرها. بل اصبحت دول العالم الثالث تشكل الآن الاغلبية في هذه الاجراءات. وهذا بالطبع، لا يخلو من رد الفعل نظير الاحتكاكات بين الدول المتقدمة والدول النامية والتي تعتبر من الأسباب التي دعت الي قيام تكتل “بريكس” وتوسعه المشهود في الآونة الأخيرة حيث “شب الصغار عن الطوق وتلاحقت الأكتف”، بسبب السيطرة من الأقوباء وعدم المساواة.
ان التنازع حول مفهوم الاغراق التجاري وكيفية تطبيقه في مختلف الدول، يجعل تطبيق اتفاقية مكافحة الاغراق في خطر، بل في مهب الريح. ولتضييق الهوة للوصول الى درجة معقولة من التفاهم والتعامل مع التطبيق، قاد العديد من الدول، ومن ضمنها بعض الدول الأوربية، الى المناداة بضرورة العمل المكثف من أجل تحسين الاحكام الواردة في اتفاقية مكافحة الاغراق، والعمل على تشديد هذه الأحكام والتصدي لما يعتبرونه اساءة استعمال تطبيق تدابير مكافحة الاغراق.
ولقد تم طرح مقترحات من أجل تشديد الضوابط على اجراء تحقيقات الاغراق بطريقة تجعل من الصعب على الحكومات اساءة استخدام الرسوم التعويضية، بل تم اقتراح اجراء تغييرات في اتفاقية مكافحة الاغراق بما في ذلك الغاء رسوم مكافحة الاغراق تلقائيا بعد عدة سنوات بعد تاريخ فرضها. وأيضا تمت المناداة بمطالبة سلطات التحقيق بأخذ آراء الصناعيين والموردين للصناعة المحلية ومنظمات المجتمع المدني مثل حماية
المستهلكين، والسماح للدول بممارسة نظام “التصفير” في طريقة حساب رسوم الاغراق والذي تعتبره هيئة تسوية المناعات التابعة للمنظمة غير قانوني، مع وضع تدابير ضد محاولات التحايل على رسوم مكافحة الاغراق وانشاء نظام جديد للاستعراض الدوري لسياسات وممارسات الدول الأعضاء المتعلقة بمكافحة الاغراق مشابهة لاستعراض السياسات التجارية للأعضاء، مع المطالبة الشديدة من العديد من الدول بوضع فترة محددة لرسوم مكافحة الاغراق. ولكن امريكا ومعها العديد من الدول الأوربية تقف ووقفت في وجه العديد من المقترحات التي تطالب بتغيير الاتفاقية وتقول، وبكل عناد، يجب أن تبقى الاتفاقية كما هي في اطارها وشكلها العام. وهكذا الشد والجذب بين قطبي دول العالم مما يؤكد ما يقود الى القول بأن مبادئ منظمة التجارة العالمية تم وضعها لحماية الدول الغنية على حساب غيرهم وهم الأكثر وليزيد دخل الغني على حساب الفقير لأن المثلية في الانتاج والصناعة غير متوفرة بتاتا. ولهذا وغيره، نقول، ستتوسع منظمة “بريكس” الجديدة لتغيير وجه العالم الاقتصادي والتجاري وبالتالي الاجتماعي. وفي المستقبل المنظور سنرى عالما جديدا، بمعايير جديدة، يقدم طبخة تجارية عالمية ولكن بنكهة مختلفة ومذاق يرضي الغالبية العظمى وليس الأقلية المحتكرة.
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع \ شركة د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م
البحرين \ دبي