وجهان لعملة واحدة
تلعب الشركات العائلية دورا كبيرا في الاقتصاد المحلي والعالمي، وهي تمارس كل النشاطات التجارية وتقدم كل الخدمات التي يحتاج لها الزبون والمستهلك علي مدار اليوم في كل ركن. وتاريخيا، قام الأجداد والآباء بـتأسيس الشركات العائلية تحت ظروف صعبة وكافحوا حتي صمدت هذه الشركات وأينعت وأتت أكلها واستفاد منها أصحاب الشركات وعائلاتهم ومجتمعاتهم. وهذه الشركات المنتشرة ما زالت تعطي بسخاء وتتطلع للمستقبل الأفضل. ولكننا بالمقابل، في نفس الوقت، نجد أعددا كبيرا من هذه الشركات تتعثر ولا تواصل سير المسير بعد فترة وخاصة من الجيل الثاني أو الثالث في العائلة، وذلك لعدة أسباب من أهمها عدم توفر الادارة المؤسسية السليمة وعدم وجود القدوة الناجحة. ونتيجة لهذا الوضع المتأرجح المتباين بين النجاح والسقوط، هناك من يري ضرورة دعم استمرار الشركات العائلية لما لها من آثار مباشرة في تحريك الاقتصاد واتاحة الفرص لها للخلق والابداع الفردي مع توفير فرص العمل لأعداد كبيرة من الشباب الطامحين. وبالمقابل، هناك من يري أنه من الأنسب بل الأصوب عدم استمرار الشركات العائلية وينادي بضرورة دفع هذه الشركات للتحول لشركات مساهمة عامة، سواء مقفلة أو مفتوحة، لكافة الجمهور عبر البورصات وأسواق المال. أو ربما، انتهاج بدائل أخرى تتم وفق كل حالة ومعطياتها.
لقد اتيحت لي الفرصة للاطلاع على دراسات عديدة عن الشركات العائلية وما لها وما عليها وأسباب ذلك من سلبيات وايجابيات. وكذلك، شاركت في عدة مؤتمرات ولقاءات عن الشركات العائلية، وفي مجمل هذه التجمعات واللقاءات، تطرق المتحدثون الي مشاكل الشركات العائلية وما يهدد استمرار بقائها، وهناك من اقترح مساعدتها للتحول لشركات مساهمة عامة اعتقادا منهم أن هذا هو الوضع الأفضل بل الأمثل. فهل تحويل الشركات العائلية الي شركات مساهمة هو العلاج أو الحل الأنجع؟ في اجابتي لهذا الطرح أقول، ومن واقع تجربتي البسيطة، أننا وفي كل المجتمعات نحتاج للشركات العائلية بقدر حاجتنا لشركات المساهمة العامة. وتتميز الشركات العائلية، في عدة أوقات، في أنها توفر العديد من المتطلبات والخدمات التي لا تستطيع شركات المساهمة القيام بها. مع العلم، ان شركات المساهمة تقوم بدور رئيسي في دعم أسواق المال وذلك لأنها تقوم بتحفيز الأموال النائمة خاصة عندما تنجح هذه الشركات وتحقق الأرباح مما يفتح الشهية لشراء أسهمها كفرص جيدة ومغرية للاستثمار المضمون وكل هذا يساعد شركات المساهمة في ارتياد المشروعات الكبيرة المكلفة.
ان بعض الشركات العائلية، في الواقع، مستمرة من نجاح لنجاحات وسر البقاء أن هذه الشركات قامت علي مبادئ الشفافية الكاملة والافصاح التام والحوكمة اضافة للولاء العائلي للشركة. والشفافية والافصاح والادارة الرشيدة (الحوكمة) بين أفراد الشركة العائلية أمر ضروري تستند عليه الشركة طيلة مسيرتها ويشكل صمام الأمان لاستمرار الشركات العائلية بينما انعدامه يقود الي موت الشركة ونهايتها بسبب التخبط وعدم وجود الرؤية المتكاملة للحاضر والمستقبل.
هناك مهام ودور لأعضاء الأسرة في تنفيذ السياسات والبرامج المطلوبة لأستمرار الشركات العائلية، ومنها، كيفية نقل السلطات وتوارثها (سكسشن) بين الأجيال من جيل الي جيل حتي يشعر كل فرد بأنه جزء مهم من الشركة بل انه من أسباب نجاحها وضمان مستقبلها. هذا، مع انتهاج الشفافية التامة المرتبطة بوضع وتنفيذ مبادئ الحوكمة السليمة لإدارة الشركة، والعلاقة بين الادارة وأفراد العائلة وكيف يتم انتقال هذه الأدوار بنجاح الي الأجيال المتعاقبة. وبموجب مبادئ حوكمة الشركات، هناك أهمية خاصة لفصل المسائل المالية التي تخص الشركة عن الأشخاص المالكين. ومن التجارب العالمية الهامة أيضا، اتضح ضرورة عدم انكفاء أصحاب الشركة علي أنفسهم بل يجب النظر حواليهم للاستعانة بالكفاءات المطلوبة من خارج العائلة بعرض الاستفادة منهم في الادارة التنفيذية للشركة مع منحهم الاستقلال الكامل في تنفيذ أدوارهم في اطار التوجهات العامة لسياسة العائلة وتراثها. والنجاح في هذا الأمر له مفعول السحر في استمرار ونجاح الشركات العائلية، والأمثلة أمامنا عديدة، بفضل نجاح وسعة افق من تمت الاستعانة بهم من خارج العائلة. وتنادي مبادئ حوكمة الشركات، بضرورة قيام الشركات العائلية بإعداد “دستور الشركة العائلية” وفي هذا الدستور تتفق العائلة علي كل التفاصيل الخاصة بإدارة الشركة وخططها المستقبلية والعلاقة العملية بين أفراد العائلة والشركة. ومن يعمل ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومن هذا الدستور يشعر كل فرد بأن له دورا خاصا ومكملا لبقية الأدوار المطلوبة لنجاح وبقاء الشركة التي تحمل اسم وطعم ولون ورائحة العائلة، وهذا بالطبع مهم للكثيرين ويحرك الطاقات الكامنة لتحقيق “الذات”. ولقد ساهمنا في اعداد دستور الشركات العائلية للعديد من العائلات في المنطقة، حيث تمت الاستفادة من هذه الهيكلة المؤسسية الهامة لتحقيق التطور المنشود.
بعض الشركات العائلية، لها نكهة خاصة ومذاق مرتبط بعرق وخلايا وبصمات بل الصفة الوراثية (دي ان أي) لمن سعي وبدأ وأسس هذه الشركات قبل سنوات عديدة. وأعتقد أن استمرار نجاح مثل هذه الشركات مرتبط بهذه النكهة الخاصة الناتجة من البصمة الوراثية وبالعرق الذي بذلوه. وهذا الوضع موجود في كل مكان حيث تناضل هذه الشركات العائلية للبقاء والاستمرار كشركات عائلية تفتخر بذاتيتها وكينونتها وتميزها وتفردها وخصوصيتها عن بقية الشركات العامة المفتوحة للعامة. وفي كل مكان هناك عائلات حافظت علي هذا التوجه وتسير باقدام متميز لمئات السنين. ونسخ مثل هذه التجارب الناجحة ممكن عبر الاستفادة والاستعانة بالمتخصصين الدارسين.
نحتاج الي العمل الجاد الدؤوب لإدراج شركات المساهمة العامة في البورصات وأسواق المال وفق المتطلبات القانونية، مع تهيئة المناخ لزيادة العمل المؤسسي لهذه الشركات لضخ الحياة في البورصات لرفد شرايين الاقتصاد الوطني بالدماء القوية التي تمنحه القوة اللازمة للنهوض لتحقيق التنمية المطلوبة. وهذا عمل جد كبير ويحتاج لمجهود واستراتيجية متكاملة يبدأ من تقوية عود شركات المساهمة.. ولتحقيق الطفرة الكبرى، علينا في نفس الوقت، العمل علي اصلاح ودعم أوضاع الشركات العائلية ودفعها لانتهاج الشفافية والافصاح والحوكمة المطلوبة لإدارة الشركة ولضمان استمرارها بنجاح وفق المؤسسية السليمة. وهذا يتطلب انتهاج وسائل لإدراج الشركات العائلية في البورصات، وفق أسس وضوابط خاصة بها، وبهذا نكون ساهمنا في فتح مجالات جديدة للشركات العائلية مما يؤدي لتقويتها وتمكينها لتساعد في تحريك ودعم الاقتصاد الوطني وبما يعود بالفائدة لهذه الشركات ولكل المجتمع.
ومثل هذه الخطوات، بالطبع لا تمنع أي شركة عائلية للتحول لشركة مساهمة عامة اذا رأت أن مصلحتها في ذلك التحول. ونقول، من اجل نمو الحركة التجارية والاستثمارية وفي أي مكان علينا الأخذ بيد كل الشركات سواء العائلية أو المساهمة العامة لحوجتنا الماسة لكليهما في نفس الوقت. والصغير جميل، كما يقولون، والصغير يكمل الكبير والكبير يتمم الصغير وكل منهم يسند الآخر ويكمله.. وهكذا تكتمل الدائرة وتدور عجلة الاقتصاد بما ينفع جميع الفئات الخاصة والعامة بما في ذلك الشركات العائلية أو شركات المساهمة.
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات
البحرين \ دبي