في مناسبات عديدة على مر التاريخ ظل القانون يلعب، وكذلك الأحكام القضائية الصادرة لتنفيذ احكامه، دورا كبيرا في تنمية واستقرار المجتمعات وفي تنظيم الموارد الاقتصادية والسياسية وغير ذلكم من أحوال الناس وأمور حياتهم عبر مراحل التاريخ البشري. وظل هذا الدور الهام للقانون مستمرا دون انقطاع، ولكن هناك لحظات فاصلة كان فيها دور القانون والمحاكم أساسيا بل محوريا، ومن دون شك، سيذكر التاريخ هذه اللحظات التي ستظل تاريخية لما لها من تبعات ستبقي ذات تأثير مباشر في تطور الحياة لفترة طويلة من الزمن. ومن دون شك، نذكر العديد من القوانين والأحكام القضائية الهامة في العديد من الدول والأقاليم والتي كان لها أثر مباشر في تطور المجتمعات والحياة بشتى مناحيها واتجاهاتها. ولقد استفادت البشرية من هذه القوانين والأحكام، وهكذا، في حياتنا اليومية، نشعر بالدور الهام للتشريعات المفيدة والقضاء الهمام.
وفي هذا الخصوص نشير إلي أنه في السنوات الأخيرة تعرضت عدة دول في أوربا وخاصة ما تعرف باسم “منطقة اليورو” لنكسات وصعوبات اقتصادية حادة بسبب أزمة الديون المتفاقمة التي ألقت بظلالها علي الجميع في شتى مناحي العالم. ولقد ظلت دول الاتحاد الأوربي في حالة استنفار لمساعدة الدول المنتكسة المتضررة اقتصاديا وماديا ومحاولة الأخذ بيدها للخروج من هذه الضائقة المالية الحادة وما نجم عنها من تبعات عسيرة عديدة. ولتحقيق هذا الغرض الهام من النواحي السياسية والاقتصادية بل والاجتماعية أيضا بحثت “المفوضية الأوربية” في اتخاذ بعض الحزم و الإجراءات المالية والاقتصادية الصعبة لتطبيقها في أوربا في المستقبل المنظور حتى تزول الغمة. و من هذه الإجراءات مثلا إنشاء اتحاد للمصارف الأوربية، وتعيين مراقب عام للبنوك الأوربية في منطقة اليورو، وكذلك إصدار تشريعات أوربية جديدة من أهمها قانون “تنظيم آلية الاستقرار الأوربي” وقانون “صندوق إغاثة دول منطقة اليورو التي تعاني من أزمة الديون”. وكان الهدف الرئيسي من هذه التشريعات تهيئة الفرصة الملائمة لخلق أدوات ضرورية لمحاولة إنقاذ مستقبل منطقة اليورو بموجب إنشاء “آلية الاستقرار” و”صندوق الإغاثة” وعبرهما العمل علي جمع المال من الأسواق المتعددة من أجل إقراضها بشروط أسهل للدول الأوربية التي تعاني من الصعوباتالمالية الحادة. وكذلك، ووفقا لما يرونه، يمكن عبر هذه الآليات وصندوق الاغاثة التمكن من القيام بشراء ديون الدول المتأثرة من أسواق الإصدار وفي السوق الثانوية بغرض التأثير علي نسب الفوائد في الأسواق والعمل على تخفيضها، كما قد تستخدم هذه الموارد أيضا لتمويل للمصارف المتعثرة لتجنب زيادة ديون الدول… وكل هذا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل استقرار الأوضاع الاقتصادية والمالية في المنطقة. وفي رأينا هذا الموقف يمثل عين الصواب، ويمثل قمة التعاون والتكافل والوحدة بين الدول وشعوبها، وبهذا الموقف الجميل تضرب أوربا المثل الأعلى لكل دول العالم التي تتطلع للتعاضد والتكاتف في ما بينها لصالح مجتمعاتها وشعوبها. وفي الوحدة قوة ومنعة.
ولتحقيق هذا التوجه، ظلت دول الاتحاد الأوربي عاكفة علي عدة برامج لتقوية اليورو مع تقديم المساعدات للدول التي تعاني من أزمة الديون الحادة وانعكاساتها الضارة. وفي هذا الصدد تم اقتراح بدائل عديدة كما ذكرنا من ضمنها إصدار القوانين أعلاه لخلق الأرضية التشريعية للعمل المطلوب. ووافقت هذه الدول الأوربية علي إصدار القوانين المعنية، ولكن الوضع تعثر في ألمانيا لأن العديد من الأحزاب السياسية وبعض المنظمات المؤثرة اعترضت بشدة علي إصدار هذه القوانين. وبسبب إصرار الحكومة الألمانية علي إصدار هذه القوانين لأهميتها لألمانيا وأوربا المتحدة، قامت الجهات المعترضة بتصعيد الأمر وتم رفعه للمحكمة الدستورية الألمانية استنادا إلي قناعتهم ورأيهم بأن إصدار قانون “آلية الاستقرار الأوربي” وقانون “صندوق إغاثة دول منطقة اليورو التي تعاني من أزمة الديون” يخالف الدستور الألماني ولذا يجب عدم إصداره و عدم تطبيقه في ألمانيا. وبالرغم من اتفاق حكومات الاتحاد الأوربي علي برامج الاتقاد وإصدار هذه القوانين لتقديم الدعم المطلوب للدول المحتاجة ولكن كل هذه الخطط ظلت مجمدة تماما بسبب الاعتراض علي إصدار القوانين في ألمانيا لمخالفتها للدستور، كما تزعم بعض الجهات. ولكن الحكومة الألمانية والتي ظلت الدينمو المحرك لدعم منطقة اليورو ولدعم الدول المحتاجة تقدمت بآرائها القوية وحججها القانونية للمحكمة الدستورية في مواجهة ادعاءات عدم دستورية القوانين. وظلت أنفاس كل أوربا ومعها المانيا، مكتومة لحين صدور قرار المحكمة الدستورية الألمانية والتي قررت أن إصدار هذه القوانين لا يخالف الدستور الألماني. وهذا كان قرارا مدويا من المحكمة الدستورية وهكذا دخل هذا القرار التاريخ وأدخل ألمانيا وكل أوربا في التاريخ.
تأتي أهمية قرار المحكمة الدستورية من عدة نواحي أولها تأكيد هوية ألمانيا كجزء من أوربا المتحدة (بل الولايات المتحدة الأوربية، كما يزعم ويتطلع البعض) وهذا تفسير متطور للدستور بما يتماشي مع روح العصر الاتحادي والابتعاد عن النزعة الألمانية (القديمة) التي تعتبر الألمان سادة العالم. ومن الناحية الأخرى فان أهمية القرار تأتي في أنه منح القوة الدافعة لدعم الدول المحتاجة في منطقة اليورو بل في استمرار بقاء ووجود هذه المنطقة خاصة والوحدة الأوربية بصفة عامة. ولقد تنفست أوربا الصعداء في يوم إصدار قرار المحكمة الدستورية التي منحت الحق للرئيس الألماني لاعتماد القوانين أعلاه وتوقيعها لتصبح جزءا من منظومة القانون الألماني الواجب التطبيق والنفاذ في ألمانيا. وهذا الوضع الحساس ما كان ليتم لولا قرار المحكمة الدستورية وتفسيرها للدستور الألماني بأن روحه و مفاهيمه وتطلعاته تقوم علي مبادئ الوحدة الأوربية ولذا يجب استمرار ألمانيا في هذا الاتجاه وبالتالي تنفيذ كل السياسات والتشريعات وفق هذه المفاهيم والسير نحو الوحدة الأوربية واعتبار ألمانيا جزء لا يتجزأ من هذه الوحدة الأوربية، بل كعضو فاعل ونافذ في هذه الوحدة.
وقالت المستشارة الألمانية القوية “أنجيلا ميركل” بعد صدور القرار مباشرة “أن هذا يوم عظيم لألمانيا وأيضا هو يوم عظيم لأوربا” وكذلك أشادت كل دول الاتحاد الأوربي والحكومات الأوربية والبورصات وأسواق المال والقطاعات المالية المختلفة بهذا القرار الحاسم ووصفته بأنه القرار القانوني “الدستوري” المنقذ لحياة الاتحاد الأوربي والحاسم لبقاء منطقة اليورو وكل السياسات المرتبطة به. بل أن بعض الجهات المؤثرة قالت أن الاتحاد الأوربي ولد من جديد وبشهادة ميلاد ممهورة بتوقيع القضاة الثمانية بالمحكمة الدستورية الألمانية مما يقود إلي استمرار الوحدة الأوربية بمفاهيم وآثار جديدة علي الاقتصاد الأوربي بل وعلي كل اقتصاد العالم في جميع اتجاهاته شرقيها وغربيها. وقطعا، فان وجود أوربا متحدة وقوية يخلق حالة توازن في العالم ويعود بالفائدة لكل دول العالم وشعوبها.
ويسطر التاريخ أثرا جديدا يلعبه القانون والأحكام القضائية الصادرة، وهكذا يساهم الدستور والقانون وهذا الحكم القضائي التاريخي في وضع بذرة جديدة في رحم الوحدة الأوربية واليورو لينجم عنها ميلاد أوربا جديدة تساعد بعضها البعض في تجاوز كل المحن والمعضلات المالية والاقتصادية لتنهض متعافية وقوية كيد واحدة وعقل واحد وجسم واحد. وهذا قطعا سيؤثر إيجابا علي كل العالم الذي يحتاج لأوربا قوية لأن العالم أصبح جسدا واحد “… إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.. لمانيا ألمانيا
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات
البحرين \ دبي