ان القول السائد بأن “العقد شريعة المتعاقدين” تعرض لما يمكن أن نقول “هزة” اذا جاز لنا هذا القول لأن المحاكم قد لا تأخذ شروط العقد كفيصل نهائي، خاصة اذا ثار خلاف عن كنه ونوع العلاقة بين أطراف العقد. وما دعانا لهذا القول القرار الصادر منذ فترة قريبة من المحكمة العليا في انجلترا في قضية شركة أوبر ومن يقود السيارات وفق نظامها. حيث قررت المحكمة الموقرة، بان من يقود سيارة أوبر يعتبر “عامل” لأغراض تحديد “الحقوق” وفق قانون حقوق العمل 1996ولائحة أوقات العمل 1998 وقانون الحد الوطني الأدني للأجور 1988، ومن هذا فان المحكمة طبقت الحقوق القانونية وفق التشريعات السارية وتجاوزت الحقوق التعاقدية لأنها لم تتقيد فقط بالشروط المتفق عليها في العقد المبرم بين الطرفين. ولهذا بالطبع أثر على وضعية العلاقة بين أطراف العمل وفق المستجدات التقنية الحديثة والعمل عن بعد. وللتوضيح، وكما هو معروف للجميع، فان آلية العمل مع شركة أوبر المشهورة عالميا تتيح للزبون الذي يرغب في الحصول على سيارة تنقله من مكان لآخر بطلب السيارة عبر “تطبيق أوبر” على الهواتف الذكية وعليه سيحصل قائد السيارة الذي يتعامل بنظام أوبر، والقريب من هذا الزبون على اشعار يظهر مكان تواجد الزيون وخريطة الوصول اليه ومن ثم يقوم قائد السيارة بالتوجه الى الزبون لينقله الي المكان الذي يريد. وتتم محاسبة قائد السيارة على المشوار وفق طريقة معينة محددة لدى الشركة. وللعديد من الأسباب، نشأ خلاف بين شركة أوبر ومن يتعامل معها من قائدي السيارات، ووصل هذا الخلاف حتي المحكمة العليا أعلى درجة قضائية في انجلترا.
توصلت المحكمة العليا الموقرة، أنه طالما أن قائد السيارة (السائق) بدأ في تشغيل البرنامج فانه يعتبر في وضع جاهز للعمل ولديه النية والاستعداد لقيادة السيارة للمشوار المطلوب مع قبول السعر، وأنه موجود في حرم المنظقة التي يجوز له القيادة فيها. وقالت المحكمة، في هذ الحالة، يعتبر هذا السائق “عامل”. أي عامل لدى شركة أوبر. ولتقرير أن قائد السيارة المعني “عامل – وركر” وليس “متعاقد مستقل – اندبندنت كونتراكتر”، كما تقول شركة أوبر وتصر عليه. وفي هذا، ركزت المحكمة العليا على عدة حقائق تم تحديدها في محكمة الدرجة الأولي للقضايا العمالية وحتى محكمة الاستئناف. ولقد بررت المحكمة، ما توصلت اليه في أن قائد السيارة يعمل مع شركة أوبر “عامل” وبما ينطبق عليه عقد عمل مع الشركة وفق القانون. وفي تحليلها للعلاقة القائمة بين الأطراف، فانه من الواضح أن شركة أوبر تقوم بتحديد المبلغ الذي يدفع نظير العمل لمن يقود السيارة وذلك بوضع الشركة للتسعيرة التي لا يسمح لقائد السيارة بتعديلها، وكذلك شروط العقد والتي تفرضها شركة اوبر بالكامل وليس لقائد السيارة أي قول فيها، وكذلك شركة أوبر تحد من حرية قائد السيارة في تحديد متي يعمل بمجرد تشغيله التطبيق الخاص بنظام الشركة وذلك بمتابعة درجة قبول قائد السيارة أو الرفض لطلبات المشوار المعني، وفرض مبالغ الغرامة عند تعدد حالات رفض المشوار المعني أو الالغاء وذلك بواسطة الابعاد الاتوماتيكي لقائد السيارة المعني من برنامج شركة أوبر لمدة عشرة دقائق وبهذا الابعاد يتم منعه من العمل حتي يسمح له باعادة الدخول في البرنامج مجددا، ايضا شركة أوبر تسيطر على الطريقة التي يتم تقديم الخدمة عبرها وذلك باستخدام نظام تصنيق يؤدي الي انذارات وربما انهاء العلاقة مع شركة أوبر، اذا لم تتقدم درجة التصنيف لدى قائد السيارة المعني. وأخيرا، شركة أوبر تحد من مقدرة قائد السيارة في الاتصال مع الزبائن وذلك عبر تحديدها لأقل درجة ضرورية من التواصل تمكنهم من تنفيذ المشوار المعين. وكل النقاط أعلاه، تناقض القول بأن هذا السائق يعتبر “متعاقد مستقل” حيث أن المتعاقد لديه درجة ما في الاعتماد على نفسه وخبرته في تنفيذ الأعمال الموكولة له، أي هناك بعض “الاستقلالية” التي يتمتع بها بعيدا عن التوجيهات القسرية كما هو وضع العامل المنفذ للتعليمات دون رأي مستقل أو قول مخالف. في وصول المحكمة العليا لهذا القرار، ركزت على أن تقرير وضعية “العامل” وفق القانون المعني يتعلق بتطبيق التفسير التشريعي وليس التفسير التعاقدي. وأن الاتفاق المبرم بين الأطراف يجب ألا يعتبر النقطة الرئيسية الأساسية في هذه القضية، لأن غرض التشريع الأساسي هو منح الحماية للأشخاص الضعفاء والذين يكونون مرؤوسين وفي وضع اعتماد تام بالنسبة للشحص أو المؤسسة التي تمارس سلطة عليهم في العمل الذي يباشرونه وكيفية مباشرته.
ان القرار الصادر في قضية شركة أوبر، في نظرنا، يرقى لمرتبة وضع أساس جديد لطبيعة علاقة العمل وفق المتغيرات التقنية الحديثة في حياتنا بعيدا عن الطرق الروتيينة التقليدية المعروفة. وبالتالى فان هذا القرار، يثبت الرسالة التي تقول أن استخدام “برنامج التطبيق” أو استخدام غيره من التكنولوجيا الحديثة المرتبطة بالعمل لتسهيل وسائل جديدة للعمل لا يمكن أخذها لهضم الحقوق الثابتة أو استخدامها لعدم الالتزام بحقوق من يؤدي الأعمال. ومن هذا المنطلق، تلاحظ في خلال السنوات القليلة المنصرمة زيادة القضايا التي وجد فيها الافراد في وضع “عامل” وليس “متعاقد مستقل” وهذا التوجه في نمو مستمر لتثبيت الحقوق التشريعية مقارنة مع الحقوق التعاقدية التي قد لا تخلو في بعض الحالات من الغبن والاستغلال. أيضا من الواضح من قرار المحكمة العليا، عدم وجود افتراض قانوني ثابت أن وثيقة العقد تحوي كل ما تم الاتفاق عليه بين الأطراف، وأنه وفق التشريع، من حق المحكمة أن تنظر الي الواقع المتمثل في اتفاق العمل حتي تصل لرأيها أن قائد السيارة ووفق تطبيق شركة أوبر يعتبر “عامل” وليس “متعاقد مستقل”، ولهذا تتوفر له كل الحقوق العمالية وفق القوانين واللوائح السارية وليس الاكتفاء فقط بما ورد في العقد.
من الأهمية بمكان، أن نقول أن المحكمة لم تقل أن العقد لا مكان له أو أنه يعتبر غير ضروري، بل ان وجوده مفيد لتوضيح اطار النقاط المتفق عليها وتفاصيل تنفيذها.ولكن، هذا العقد لا يعتبر نهاية المطاف اذا حدث خلاف في الحقوق المرتبطة به الخاصة بالعمل وأنه يجوز للمحكمة اضافة لذلك الاحتكام والرجوع للضمانات المذكورة في التشريعات العمالية السارية، والا سيكون هناك هضم للحقوق بواسطة الطرف “المتسلط” القوي على حساب الطرف “المحتاج” والذي يعمل وفق ارادة الطرف القوى وتحت رحمته. ومن الأفضل، الآن نظرأ لأوضاع العمل المستجدة ودخول التقنية، الحرص على صياغة عقود العمل بطريقة واضحة تضمن الحقوق والواجبات للأطراف المتعاقدة ليتم تنفيذ العمل بروح متعطشة للعمل واتقان العمل والولاء له، وبهذا يستفيد الجميع وتتطور بيئة العمل لآفاق أرحب مليئة بالعدالة للأطراف وسوق العمل الشريف.
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م
البحرين \ دبي