بموجب القرار رقم 42|112، بتاريخ الأول من ديسمبر 1987، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاحتفال بيوم 26 يونيو من كل عام، ليكون يوما دوليا لمكافحة استخدام المخدرات والاتجار غير المشروع بها بهدف تعزيز العمل والتعاون من أجل تحقيق هدف اقامة مجتمع دولي خال من استخدام المخدرات. ويهدف هذا الاحتفال العالمي، الذي يدعمه كل عام الأفراد والمجتمعات المحلية والمنظمات المختلفة في جميع أنحاء العالم، الى زيادة الوعي بالمشكلة الرئيسية التي تمثلها المخدرات غير المشروعة في المجتمع.
والاحتفاء، حقيقة، يمثل علامة بارزة للتذكير بأهمية مكافحة هذه الآفة التي تنخر في المجتمعات خاصة وسط الشباب وصغار السن. وتعاطي المخدرات، بكافة أشكالها من حشيش وبنقو وشبو وأفيون وهيروين ومارجوانا مخدرة وكراك كوكايين وغيرها من الحبوب والمؤثرات العقلية التي تذهب بالعقل دون رجعة، يعتبر جريمة خطيرة مركبة ومزدوجة لأن بسببها تنشأ جرائم أخرى لا تقل عنها خطورة. ومنذ وقت، تتبارى الدول في اصدار قوانين تحرم وتجرم استعمال وتعاطي وزراعة وتصنيع وتوزيع وترويج وتداول وبيع المخدرات بشتى أنواعها وأشكالها، ولخطورة الجريمة نطالب بالقصاص منهم وبتوقيع أقصى العقوبات على مرتكبيها وبدون رحمة. وكذلك هناك المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تدعو للمحاربة الأممية والوقوف بيد واحدة في وجه هذه الجريمة الشنعاء ووجه كل من يدور في دائرتها.
ولكن ، وبكل أسف، ما زال خطر الجريمة يمثل “بعبعا” يطل برأسه يوميا وفي كل لحظة، وهذا يقود للمزيد من الاجرام الضار بالمجتمع، اضافة لمضاعفات التفكك الأسري والمشاكل العويصة التي تتم بسبب التعاطي والادمان، والخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تنجم عن هذه الجريمة بسبب عدم الانتاج وضعفه بل انهياره لدى فئات شابة وأيادي قوية تحتاج لها المصانع والمزارع والمدارس والانتاج الفكري والقائمة تطول. ومدمن المخدرات، خطر على نفسه وعلى عائلته وكل من حوله لأن الأدمان يسيطر عليه ويشل تفكيره ويتحول لشخص أخر خارج عالمنا الطبيعي.
ونظرا للارتباط المباشر بين تعاطي المخدرات بالجريمة، تم انشاء “مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة” ليكون الواجهة الأممية في التصدي والمكافحة مع تقديم العون الفني واللوجستيي لكل الدول ليكون الجميع يدا واحدة وقلبا واحد. ووفق التقارير الصادرة من هذا المكتب (يو ان أو دي سي) فان قائمة أهم الجرائم العابرة تأخذ الترتيب الآتي، جرائم التزييف والتزوير، الاتجار غير المشروع في المخدرات، الهروب عبر الحدود، الاتجار بالبشر، التعدين غير القانوني، الصيد غير القانوني، تجارة الحيوانات غير الأليفة، سرقة خام البترول، تهريب الأسلحة الصغيرة والخفيفة، تجارة الأعضاء البشرية، تهريب الآثار والمواد الثقافية).
ان جريمة الاتجار غير المشروع في المخدرات تمثل جائحة دولية (مع العلم أن مكتب الأمم المتحدة المختص ظل يستخدم كلمة “جائحة دولية” في شأن المخدرات منذ فترة طويلة وقبل كوفيد -19، لأنها تضرب كل العالم دون هوادة وفي ازياد مضطرد). ويقول أخر تقرير من هذا المكتب، أن خسائر الجرائم عابرة القارات تصل الي ما يقارب ثلاثة ترليون دولار في العام وأن سوق تجارة المخدرات أكثرها رواجا وتقارب سبعمائة بليون دولار في العام وانه يحتل مرتبة الجريمة العالمية الثانية بعد جرائم التوزير والتزييف. ومن المعلومات الخطيرة في هذا التقرير، أن خمسة ونص في المائة من مجموع السكان العالمي ممن تبلغ أعمارهم بين خمسة عشر الي أربعة وستون سنة استخدموا أو تعاطوا المخدرات بصفة مستمرة. ونلاحظ وبحسرة تامة أن جلهم في ريعان الشباب، وهذا الرقم يمثل قرابة مائتان وخمسة وسبعون مليون شخص متعاطي للمخدرات. هذا عالم مجنون؟ وفي هذا الخصوص، وللغرابة، فان تقرير “الادارة المركزية الأمريكية لمكافحة المخدرات” يقول أن الوفيات من تعاطي المخدرات بسبب التسمم من المخدرات أو الجرعة الزائدة، تتجاوز تلك الوفيات الناجمة عن استخدام الأسلحة، حوادث الطرق، الانتحار، والعديد من الجرائم ضد النفس. وللدلالة على ذلك، في عام 2014 تم تسجيل مائة وتسعة وعشرون حالة وفاة يوميا بسبب جرعة المخدرات الزائدة. ولك أن تتصور مدى جسامة وخطورة ما يحدث على أرض الواقع بسبب المخدرات، وما أدراك ما المخدرات؟
نقول، ان الجريمة خطيرة وأبعادها وآثارها على المجتمع أكثر خطورة. وأيضا نقول، ليس بالقانون وحده تتم السيطرة والمحاربة الكاملة لهذه الجريمة. نحتاج للجميع للوقوف معا للمحاربة، نحتاج للبيت والأسرة وكل من في الحارة والأزقة، نحتاج للتربية في المدارس وزرع وتأصيل القيم النبيلة، نحتاج لكل المجتمع لخلق ثقافة مجتمعية تبرز الوجه الأسود لهذه الجريمة الشنيعة ومن يرتبط بها بأي شكل كان. نحتاج للتعاون عبر الحدود مع الدول المجاورة ومع كل العالم شرقه وغربه شماله وجنوبه، نظرأ لأن هذه الجريمة عابرة للدول وعبر القارات وتدخل كل مكان دون جواز سفر أو تأشيرة دخول، بل تدخل في خفاء تام ملفوفة بالسواد النتن. وبالطبع، فان الفئة الضالة من تجار المخدرات يتعلمون من الأخطاء ويستفيدون منها عبر انتهاج طرق جديدة وبديلة لارتكاب جرائمهم وتوزيع بضاعتهم المخدرة، وهذا بدوره، يتطلب المزيد من الحذر والوعي وتطوير أساليب الكشف والمتابعة والمراقبة والتحريات حتى نقودهم لحتفهم وعقابهم عبر القوانين النافذة.
ولقد اقتنع كل العالم، ان سياسة العقاب لجزء كبير من هذه الفئة، تحتاج لوقفة للانقاذ وللمساعدة في تجاوز محيط الجريمة والخروج منها متعافيا سليما وبما يعود بالفائدة للنفس والأسرة والبلد. ولذا، ننادي بضرورة الأهتمام بتقديم المعالجة النفسية الصحيحة لكل من يتعاطى المخدرات وتقدبم الدعم المعنوي والعلاجي والنفسي لهم، لأنه أتضح وجود “غشاوة” وعدم وضوح الرؤيا لديهم عند بداية التعاطي، والكثير يقولون هذا ويؤكدونه. ومثل هؤلاء يحتاجون للانقاذ السريع والارشاد والتوجيه السليم حتي تزول الغشاوة ويرتد اليهم عقلهم ووجدانهم السليم. وهذه مسؤولية مجتمعية كبيرة.
كما ذكرنا، فان جرائم المخدرات مركبة ومزدوجة، وكمثال، كل من يروج المخدرات ومن معهم، وبدون استحياء يرتكبون جرائم غسل الأموال لتبييض وتنظيف الأموال القذرة الآتية من بيع المخدرات والمتاجرة فيها، وكذلك يرتكبون العديد من الجرائم الالكترونية السبرانية عبر “الأنترنت الأسود” الذي يقيمونه بأنفسهم في الظلام الأسود لارتكاب المزيد من الجرائم بعيدا عن الأعين والمراقبة، وهذا يقود لعالم أسود ملئء بالاجرام والأعمال المبتذلة الكريهة، وكل العالم يعاني الآن من “الانترنت الأسود” وما يتم فيه من اجرام مؤسسي مبرمج. وعليه، بسبب هذه الأوضاع، نلاحظ متابعة دقيقة وأحكام قضائية قوية في عدة دول في مواجهة عصايات المافيا وتجار المخدرات نظرا لما عانته هذه الدول من أفعالهم الاجرامية وقتلهم لرجال المكافحة والشرطة والقضاة، حيث ثبت أن “بابلو اسكوبار” تاجر وبارون المخدرات الكولمبي وظف عصابات متخصصة في القتل وبالفعل قتلت العشرات من الشرطة والقضاة، وهذا المجرم ووفق مجلة “فوربس” ظل لعدة سنوات أغني رجل في العالم بسبب تجارته في المخدرات. ويا سبحان الله، والمهم، أنه نال الجزاء بالمثل برصاص اخترق جسده أثناء مطاردته من رجال مكافحة المخدرات. ونقول، هناك العشرات بل المئات مثل اسكوبار الكولمبي، في العديد من الدول، ما زالوا أحياء طلقاء يزودون العالم بتجارتهم المسمومة ويقتاتون من عوائد هذه السموم وعلينا جميعا التكاتف في محاربتهم انقاذا للبشرية ولشبابنا فلذة أكبادنا ولمستقبل مشرق لعالم نظيف من المخدرات.
وبالنسبة للعقوبات، كذلك نلاحظ صدور توجهات جديدة من المنظمات الدولية التي تحارب جرائم المخدرات وغسل الأموال، ونؤيد هذه التوجيهات خاصة وأنها تنادي بتخصيص جزء كبير من غرامات عوائد جرائم غسل الأموال، لانفاقها في علاج متعاطيي المخدرات بأفضل السبل العلاجية والنفسية. وبالطبع، في هذا فائدة مزدوجة تتمثل في العقاب والاصلاح والتقويم النفسي، وهنا تتمثل روح القانون وفلسفته في حماية المجتمع وخدمته في نفس الوقت..
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م البحرين \ دبي