تتعرض العلاقات والمعاملات التجارية، في بعض الأوقات، للخلافات الطفيفة أو تلك المستعصية جدا مما قد يضر بالتعامل بين الأطراف ويؤثر عليه سلبا لدرجة تؤدي لانقطاع العلاقة وتحولها من علاقة حميمة مفعمة بالود الي علاقة عدائية مليئة بالأحقاد والغبن. ولقد ازدادت وتيرة الخلافات بين الأطراف بسبب تشعب الحياة في كل مناحيها بما في ذلك الأعمال التجارية وغيرها ودخولها في تفاصيل وأفكار متبادلة وتطورات متتالية في الأحداث مع التغييرات المستجدة… وكل هذا وغير هذا، أدي بدوره الي حدوث الاختلافات والتمايز والانشقاق في التفكير وكيفية التنفيذ وتبعات ما ينجم عنه، ومن كل هذا قد تتوسع هوة الخلافات وهذا أمر طبيعي ومتوقع الحدوث في كافة المعاملات، وعلي التجار ورجال الأعمال والشركات الاستعداد لأي طارئ عند حدوث الخلافات والعمل على تسويتها بأفضل السبل وأقل الخسائر.
عند حدوث المنازعات في المعاملات فيما بين الأطراف، وبصفة عامة، فان النظر والفصل في القضايا وكافة المنازعات يعتبر من صميم اختصاصات المحاكم القضائية في البلد أي “السلطة القضائية” وذلك بصفتها صاحبة الاختصاص الأولي المبدئ في الفصل في المنازعات وفق الاجراءات القانونية السليمة. وهذا الحق يستمد قوته من الأحكام والمبادئ الدستورية، وعليه وبموجب هذا تتم احالة القضايا للمحاكم للفصل فيها بين المدعي والمدعي عليه ويكون الحكم قابلا للتنفيذ بعد استنفاذ كل مراحل التقاضي.
ولكن، مع مرور الزمن تبين أن اللجوء للمحاكم قد تشوبه بعض المعضلات، ولا بد من البحث عن بدائل أخري مناسبة ومعترف بها قانونا لتسوية المنازعات وحفظ الحقوق وفق أسس العدالة التي ينشدها الجميع. ان بدائل تسوية المنازعات التي درج الأطراف اللجوء اليها تشمل التسوية الودية والصلح، التحكيم، التوفيق، الوساطة، ولكن باستعراض هذه البدائل لتسوية المنازعات فإننا نجد أن من أهمها، هو التحكيم، الذي نجده واقفا شامخا ومقدما لأفضل بدائل تسوية كل المنازعات بكافة أشكالها والتحكيم هنا يشمل التحكيم بشقيه التحكيم الفردي (أد هوك) أو التحكيم المؤسسي (انستتيوشينال).
ولكن لماذا يتم اللجوء للتحكيم؟ هذا سؤال مشروع يردده الكثيرون بحثا عن الاجابة المقنعة المريحة للفكر والبال خاصة وأن الأمر يتعلق بالحقوق والواجبات وما لك وما عليك؟ وأين تذهب في بحثك عن العدالة؟ وهل اللجوء للتحكيم يحقق لك ما تصبو اليه ويوفر القدر المطلوب من العدالة؟
ومنذ مدة معتبرة أصبح اللجوء للتحكيم من أفضل البدائل القانونية المتوفرة لتسوية المنازعات، وهناك الكثير من الأفراد والمؤسسات والدول يلجؤون للتحكيم. وهذا يتم عبر التحكيم الفردي أو التحكيم المؤسسي عبر مراكز التحكيم المحلية أو الاقليمية أو الدولية. ومع مرور الزمن أصبحت ثقافة اللجوء للتحكيم عامة ومنتشرة ، وهذا أعطي زخما ودافعا قويا لصناعة التحكيم ومن يقف خلفها لبذل كل الجهد المستطاع لتطوير التحكيم ليأخذ موقف الريادة ان لم نقل السيادة في الوصول عبر طريقه لمرافئ العدالة.
ان التحكيم يتم وفق قوانين أو ضوابط خاصة تصدر في كل بلد بهدف تنظيم وتقنين التحكيم وتعطيه الصفة القانونية الكاملة والالزامية النافذة، ومن هذا الواقع القانوني فانه يجوز للأشخاص المتنازعين اللجوء للتحكيم لعرض منازعاتهم وفق الكيفية المشار لها في قانون التحكيم أو نظام مركز التحكيم الذي تم اختياره لمتابعة التحكيم فيه. وننصح من يرغب في اللجوء للتحكيم، ادراج “شرط \ بند التحكيم” في العقود التي يقوم بإبرامها. شريطة أن يكون هذا الشرط \ البند وافيا وشاملا ومغطيا لكل التفاصيل المتعلقة بالتحكيم والاجراءات المرتبطة به خاصة وأن “بند التحكيم” الوارد في معظم العقود غير كاف “بل لا يشفي غليلا” مما يضع العديد من العراقيل أمام التحكيم. وكذلك نفس الأمر ينطبق على “مشارطة التحكيم” حيث يتفق الأطراف وبعد حدوث النزاع على احالة النزاع للتحكيم، ويجب أن يكون اتفاق “مشارطة التحكيم” واضحا وشاملا لكل التفاصيل حتي يبدأ التحكيم ويسير علي خطي واضحة وحثيثة.
هناك مميزات عامة ومميزات خاصة للتحكيم تميزه عن غيره من وسائل تسوية المنازعات. ومن المميزات العامة وأساسيات التحكيم التي يرتكز عليها كمرتكز أساسي، نجد ميزة وجود “فترة زمنية محددة” لنظر النزاع واصدار الحكم النهائي. وأغلب القوانين تنص علي انتهاء التحكيم في خلال فترة زمنية لا تتعدي ستة أشهر من تاريخ بداية نظر النزاع والذي تقوم بتحديده هيئة التحكيم (أو المحكم الفرد)، وبعض الأنظمة تنص علي فترة أقل. والغرض من كل هذا والذي يتضح جليا، أن تسوية النزاع أمام التحكيم مربوط “بفترة زمنية محددة” يجب ألا يتجاوزها، هذا ما لم يتم الاتفاق لاحقا بين الأطراف علي زيادة المدة، والا بطل التحكيم لفوات المدة القانونية المقررة وعدم الالتزام بهذا المبدأ الأساسي.
ومن الناحية المبدئية يجب على هيئة التحكيم التمسك والتقيد التام بالمدة القانونية المقررة، ما لم تكن هناك حالات استثنائية فردية يتفق بموجبها أطراف النزاع على زيادة المدة… وهذا بالطبع يعود لرغبة الأطراف وتقديرهم للمدة، ومبدأ “المدة القانونية المقررة” يضع علامة فاصلة وهامة لأن التحكيم يتضمن الزاما قانونيا بالانتهاء الكامل واصدار القرار “النهائي” لهيئة التحكيم في خلال “المدة القانونية المقررة”، ونظير هذا أصبح التحكيم الملجأ الشرعي والبديل القانوني المناسب للبحث عن العدالة السريعة الناجزة وذلك لتميزه بصفة الزامية “المدة القانونية المقررة”. وعامل الزمن والوقت في المعاملات الآن له وزن بلا حدود اضافة لما له من قيمة مادية كبيرة جدا.
وكذلك من مميزات التحكيم، أن هيئات التحكيم في العادة يتم اختيارها من كفاءات ذات تخصص ومعرفة فنية بطبيعة النزاع. فاذا كان النزاع مثلا هندسيا فان هيئة التحكيم تتكون أو تضم مهندسين، واذا كان النزاع في تقنية المعلومات والكمبيوتر مثلا فان هيئة التحكيم تتكون أو تضم أخصائيين من تقنية المعلومات والكمبيوتر. وهكذا فان هذا ينطبق علي كل التخصصات المالية والمحاسبية والزراعية والصناعية والقانونية أو غيرهما وهكذا، يتم اختيار أعضاء الهيئة من ضمن كفاءات متخصصة ذات خبرة مهنية وفنية كافية لنظر النزاع والفصل فيه وفق ما لديها من تجارب مباشرة ومعرفة تخصيصية متراكمة. وهذا الوضع التخصصي “النادر” تتميز به هيئات التحكيم، وبالمقابل فان “التخصصية” المتوفرة في هيئة التحكيم نفسها قد تمكنها من استيعاب أبعاد المشكلة بكل سهولة ويسر لأنهم على علم ببواطن الأمور ومجرياتها، وكل هذا يسهل مهمة هيئة التحكيم في سرعة الفصل.
وأيضا من مميزات التحكيم، أنه يتم في اطار “السرية” المطلقة وبعيدا عن العلنية والاعلام. وكل معلومة يتم تبادلها في ردهات التحكيم تتم بسرية محكمة وكتمان تام، وتظل مكتومة في داخل أروقة التحكيم فقط ، حماية لأصحابها وحقوق أصحابها المتعلقة بالتجارة أو “الصنعة” أو غيره وتظل هذه السرية تحيط بسياج التحكيم وما دار ويدور حوله الي ما لا نهاية وفي هذا فوائد عديدة للأسرار التجارية والمالية والصفقات المستمرة وما تم بشأنها… وهذا الوضع “السري” الخاص بالتحكيم تنظمه القوانين والعلاقة التعاقدية بين الأطراف اضافة الي الالتزامات المهنية للمحكمين التي تلزمهم بالحفاظ التام علي السرية.
من المميزات العامة أيضا للتحكيم، انتهاء البغضاء والشحناء والكراهية بين الأطراف المتنازعة وذلك لأن تسوية النزاع وحسمه تم في سرية تامة ووفق اختيار الأطراف ومشاركتهم في اختيار “هيئة التحكيم” وكذلك المشاركة الفعلية في اختيار الاجراءات والقانون والمكان واللغة وغيرهما، المتعلقة بالتحكيم وأعمال هيئة التحكيم. وفي هذه المشاركة عدة عوامل ايجابية، خاصة الجانب النفسي حيث يشعر الأطراف أن ما أصدرته هيئة التحكيم سواء لصالحهم أو ضدهم تم بمشاركتهم في اختيار كل الخطوات منذ البداية. وهذا غير متوفر عند نظر النزاع أمام المحاكم، لعدم توفر المشاركة التي تتم في حالة اللجوء للتحكيم. ومن كل هذا، يشعر الأطراف بالارتياح من القرار الصادر من هيئة التحكيم حتي لو لم يكن لصالحهم، ولقد شاهدنا هذا بأنفسنا في حالات عديدة حيث يتصافح الأطراف وتري الراحة النفسية بادية علي وجوهم وأساريرهم. وبالمقارنة، فان سير الاجراءات أمام المحاكم يورث العداوة بين الأطراف وبين عوائلهم لأن ما يدور أمام المحاكم عبارة عن “حرب” ينتصر فيها من ينتصر ويهزم فيها من يهزم… ولا أحد يقبل الهزيمة مهما كانت ويظل يفكر ويبحث طيلة عمره في كيفية الانتقام أو رد الاعتبار لنفسه أو لعائلته مما لحقهم من هزيمة من الطرف الآخر.
هذه أهم المميزات العامة التي يتميز بها التحكيم والتي من أجلها يلجأ العديد من أصحاب المنازعات لطرق أبواب التحكيم بحثا عن تسوية هذه المنازعات، وفق المعطيات والمميزات التي يجدونها، وهي مغرية ومشجعة للركض نحو التحكيم كأفضل البدائل القانونية المتوفرة لتسوية المنازعات. ومن واقع التجارب والنتائج والممارسات العديدة في عدة أماكن، تبين أن اللجوء للتحكيم يوفر العدالة المطلوبة للأطراف المتنازعة، بكل مقاييسها، وذلك استنادا لما هو متوفر من المميزات “العامة” العديدة في صناعة التحكيم والتي أشرنا لها أعلاه. وهناك مميزات “خاصة” بالتحكيم سنتناولها في مقال مستقل.
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع\ شركة د عبد القادر ورسمه ذم.م البحين \ دبي