
يعتبر التحكيم من أهم بدائل تسوية المنازعات، ان لم يكن الأهم فعليا. حيث يتم اللجوء للتحكيم عوضا عن المحاكم المنشأة أساسا لتسوية المنازعات، كل أنواع المنازعات بشتى ضروبها. ومن هذا نقول، أن الأصل في التقاضي للبحث عن الحقوق يعود للقضاء. ولكن قد يلجأ أطراف النزاع لبدائل أخري، ولعدة أسباب، لتسوية نزاعاتهم ومن ضمن هذه البدائل التحكيم (آربتريشن)، بشقيه المؤسسي والفردي (آد هوك).
والتحكيم موجود منذ الأزل ويسبق القضاء المنظم، والآن أصبح التحكيم مهنة وصناعة معروفة ثابتة الأركان ونافذة الأحكام. ولصناعة مهنة التحكيم، عدة أركان أساسية لا بد من توفرها حتي يستقر ويستقيم التحكيم وبصبح نافذ المفعول. وأركان التحكيم عديدة، وما يهمنا في هذا المقام “سرعة الفصل في النزاع” لتكون العدالة ناجزة وسريعة يشعر المظلوم بطعمها في حينه ويستلذ بتذوقها. والسرعة من الأركان التي يقوم عليها التحكيم، وهي من أشد الأسباب التي فتحت المجال ليكون بديلا عن القضاء في تسوية المنازعات بين الأطراف في كل بقاع العالم. هذا، لأن التقاضي يأخذ وقتا طويلا للدرجة التي قد تجعله يفقد دوره في تحقيق العدالة السريعة الناجزة التي يتطلع لها من يبحث عن حقه. والقضاء، تفهم هذه النقطة ويعمل جاهدا لتجاوزها.
ولتثبيت أركان السرعة، نجد أن كل قوانين التحكيم واجراءاته ولوائحه تتحدث عن ضرورة صدور قرار “حكم” التحكيم النهائي خلال مدة قصيرة. ونجد نظام مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي بالبحرين ينص على صدور الحكم النهائء خلال مدة أقضاها 100 (مائة) يوم. وينص نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس، على مدة أقصاها لا تتجاوز 6 (ستة) أشهر. وسار على هذا النسق الجميع، حيث نجد أن كل الأنظمة تنص على فترة زمنية محددة وقصيرة يجب اصدار القرار النهائي خلالها. بالطبع، ما لم تكن هناك أسباب خارجية قوية تحول دون ذلك ويوافق الأطراف وهيئة التحكيم بموجبها على زيادة المدة المحددة.
وانطلاقا من هذه القاعدة الجوهرية، الخاصة بسرعة الفصل في المنازعات، فان قوانين ولوائح التحكيم تنص على الطعن بالنقض ل “بطلان” حكم التحكيم اذا تجاوز عن المدة المقررة له في القانون أو باتفاق الأطراف وهيئة التحكيم لمد المدة المقررة. ولقد صدرت احكام نهائية وسوابق قضائية في هذا الشأن وتم ابطال حكم التحكيم لتجاوزه المدة المقررة، باعتباره يخالف القانون والنظام العام. ولذا، هناك الزام قانوني واجرائي ومهني، على هيئة التحكيم وخاصة رئيسها لضبط العمل ومداراته بحنكة واقتدار وفق الزمن المحدد. والا انفرط العقد.
والآن، والجميع يرزح تحت طائلة جائحة كورونافيروس، هل يتم التباطؤ في التحكيم وعدم التقيد بالمدة القانونية المحددة نظرا للأوضاع الطارئة والمستجدات والظروف القاهرة بسبب جائحة كورونافيروس. ومنها التعليمات الحكومية بالعمل عن بعد وتقليل الاجتماعات واللقاءات والحد من الانتشار والحركة وغيره. في الاجابة على هذه النقطة، نقول أن الركن الخاص بسرعة الفصل في التحكيم يعتبر من الأركان الرئيسية الجوهرية التي يقوم عليها التحكيم. وعليه، لا بد من التقيد والالتزام التام بهذا الركن الجوهري، وكما ذكرنا فان عدم الالتزام بالمواعيد المقررة يقود مباشرة لابطال حكم التحكيم.
ان القاعدة تنص، على الالتزام بالمدة المقررة وعلى هيئة التحكيم وأطراف النزاع الالتزام بالعمل وفق المدة المقررة. واذا كان هناك أسبابأ و مستجدات تستدعي زيادة المدة يجوز للأطراف الاتفاق على ذلك. ولكن يجب أن تكون هناك أسبابا قوية تستدعي مد المدة الزمنية. وعلى رئيس هيئة التحكيم، أن يباشر دوره هنا لتحقيق العدالة وفق الأركان الأساسية التي تقوم عليها صناعة التحكيم ومنها سرعة الفصل في النزاع. ونلاحظ وجود نص هام يتضمنه نظام مركز التحكيم التجاري لدول الخليج العربية بالبحرين، يقول أنه في حالة وجود ظروف قاهرة تتعلق بأي محكم فانه يجوز تعيين محكم بديل لتستمر عملية التحكيم. ومن هذا يتضح، أن حدوث الظروف الطارئة أو القاهرة يجب أن لأ تؤثر على سير التحكيم والفصل في النزاع في خلال المدة المحددة، بل يجب تجاوزها والبحث عن البديل المناسب لصيانة ورعاية هدف التحكيم.
ان الاوضاع التي ظهرت بسبب جائحة كورونا، قد تقود البعض للمطالبة بتأجيل الاجتماعات ووقف العمل عن قرب. ولكن، للتحيكم أحكام وأركان خاصة يجب التقيد بها ومراعاتها في جميع الأوقات وللدرجة التي تمكن الاطراف من العمل وفق الضوابط الطبية والادارية الجديدة وعدم مخالفتها. وعلى أطراف النزاع تفهم الوضع وهناك دور كبير ملقي على عاتق الرئيس وأعضاء هيئة التحكيم، اذ يجب عليهم الموازنة بدقة بين سير التحكيم والضوابط الطبية التي ظهرت بسبب جائحة كورونا، والعمل الجاد للتوفيق بينهما وبما لا يضر بالتحكيم وأهدافه وعدم فتح الباب لمن يبحثون عن شتى الطرق لتعطيل التحكيم. ونقول كل هذا، لأن من ارتضى، منذ البداية، اللجوء للتحكيم عليه السير في هذا الطريق تحت كل الظروف. ودور هيئة التحكيم هام في تحقيق هذا الهدف والحفاظ، بل الاصرار، عليه في كل الأوقات والأزمان.
واضافة لما تقدم، القانون يجيز التحكيم عن بعد وهذا الأمر ظل مستمرا منذ فترة طويلة وقبل ظهور جائحة كورونا وما شابهها. بل ان نسبة كبيرة من اجراءات التحكيم أو بعضها تتم، واذا كان لا بد، من العمل عن بعد. والباب مفتوح للتحيكم عن بعد وفق الضوابط والاجراءات القانونية والممارسات السليمة المتبعة. وبتوفر امكانية التحكيم عن بعد، لا نري أي مبرر لتعطيل اجراءات التحكيم بل يتم السير فيها لتحقيق الفصل السريع في المنازعات تحقيقا للعدالة الناجزة التي يبحث عنها الجميع. ونقول، مع الأخذ في الاعتبار ما حدث بسبب جائحة كورونا،أن من أوجب واجبات مراكز التحكيم الدولية والاقليمية والوطنية، الاستعداد التام لاجراءات التحكيم عن بعد. بل عليها، تقديم التدريب المطلوب لتسهيل هذه المهمة التي ستدفع بمهنة صناعة التحكيم لآفاق أرحب وأبعد، بحثا عن العدالة وتقديمها في أبهي ثوب في الوقت الملائم والصحيح.
د. عبد القادر ورسمه غالب
ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات
البحرين \ دبي