الخميس 17 أغسطس 2023
مع تطور العمل المالي والمصرفي الالكتروني e-banking وتوسع دائرتهم عالميا، بدأت جرائم جديدة في الانتشار السريع، وهي ما تعرف بالجرائم الالكترونية، وبدأت هذه الجرائم تحوز على اهتمام المجتمع الدولي نظرا لإبعادها السلبية على العمل المصرفي والقطاعات الاقتصادية والمالية. وفي العادة، تقوم البنوك والمؤسسات المالية ببذل جهود كبيرة في الحفاظ على المعلومات المتعلقة بالعملاء وخاصة المسائل المرتبطة بالحسابات المصرفية والمعاملات المالية نظرا لأن سرية المعلومات، من أهم الأركان التي يقوم عليها العمل المصرفي والمالي في كل مكان. وقطعا سينزعج العميل إذا علم أن هناك تلاعبا فيما يتعلق بالمعلومات الخاصة بتعاملاته أو حساباته بالمصارف، وإذا استدعى الأمر ربما يلجا العميل للقضاء للمطالبة بتعويضات باهظة ومنازعات طويلة متعبة.
أن كشف المعلومات المتعلقة بالعملاء والتلاعب في الحسابات الخاصة بهم، وغير ذلك مما يخص العملاء، كان يتم عبر وسائل إجرامية ربما نسميها جوازا (الجرائم التقليدية (Traditional Crimes مثل تزوير كشوفات الحساب وغيرها من المستندات المصرفية باستخدام توقيع يدوي (باستخدام اليد) مزور أو تقديم معلومات غير صحيحة كتابة أو شفاهة بقصد إجرامي، أو التلاعب في الودائع بواسطة الموظفين أو الاحتيال Fraud أو غير هذا من الأفعال الإجرامية التي تم ارتكابها وفعلها ماديا ( الفعل الجنائي (Actual Reus عن سوء قصد ونية إجرامية Mens Rea)). والجرائم التقليدية المذكورة أعلاه أصبحت معلومة لإدارات البنوك والمؤسسات المالية وسلطات التحقيق الجنائي والمحاكم الجنائية ولقد ظلت كل الأجهزة المصرفية والعدلية تتعامل مع هذه الجرائم، بشتى أنواعها، باليقظة والحذر الكافيين لمنع حدوثها أو التقليل من حدوثها إلى اكبر حد. ومن الجدير بالذكر أن هذه النوعية من الجرائم ( التقليدية )، ونظرا لأنها بدأت وظلت مستمرة منذ وقت طويل، فان البنوك وغيرها من الأجهزة المختصة أصبحت مؤهلة لمجابهتها واكتسبت خبرة في كيفية التعامل معها منذ مراحل مبكرة من اكتشفها وأثناء مراحل التحقيقات الأمنية أو القضائية.
ومن الملاحظ الآن أنه ونظير هذا التعامل المستمر ولفترة من الزمن نستطيع القول بأنه أصبح لدى كل الأجهزة المختصة خبرة تراكمية Accumulated واسعة تم اكتسابها أثناء التعامل مع هذه الجرائم ومحاربتها وردع مرتكبيها، وحرى بالقول أن البنوك والمؤسسات المالبة قامت بسد كل الفراغات التي يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب هذه الجرائم وذلك من خلال تكثيف المراقبة المهنية والإدارية (عبر برنامج اعرف عميلك وأعرف عميل عميلك) مع الحرص في نفس الوقت علي تدريب الموظف المختص تدريبا عاليا وإصدار التعاميم والتوجيهات اللازمة التي تساعده في تنفيذ المهام الموكلة له… الخ. لكن الجميع الآن يواجه خطرا داهما يتمثل في ظهور نوع جديد وجيل متطور من الجرائم المستحدثة التي تختلف عن الجرائم التقليدية المشار لها أعلاه، وهي الجرائم التي تتم عبر الكمبيوتر والانترنت أي الجرائم الالكترونية أو جرائم السايبر cyber crimes
إن تطور العلوم والتكنولوجيا في شتى المجالات قاد إلى ثورة تقنية هائلة قادت بدورها إلى ظهور الانترنت Internet والرسائل الالكترونية E-Mail وبيئتها الافتراضية Virtual environment cyberspace ، وإلي انتشار استخدام هذه التكنولوجيا الافتراضية في شتى مجالات العلوم والاقتصاد والاتصالات الرسمية والشخصية… ولقد أدى هذا التطور التقني إلى استخدام الانترنت في الولوج إلى أعماق كل أنواع المعرفة ومصادر المعلومات وتخطي الحواجز الاجتماعية والسياسية والعرقية التي كانت تحكم تصرفات البشرية لفترة طويلة من الزمن. ويمكن أن نقول، بدون منازع ، أن طوق كل الحواجز قد انكسر وزالت كل الحدود المعرفية بظهور الانترنت وأصبح بمقدور أي شخص ومن أي مكان الحصول على المعلومات التي يرغبها بمجرد الضغط على زر الجهاز وأصبح العالم الآن كما يقولون ( قرية صغيرة ) يمكن التجول في جميع أركانها في لحظة زمان واخذ المعلومات المطلوبة وإصدار التعليمات أثناء هذا التجوال. وأصبح الملايين يستخدمون الانترنت كل يوم في دراساتهم أو أعمالهم أو تجارتهم. والعدد يتزايد كل يوم لأن التعامل بالانترنت أصبح ضرورة ملحة. ولكن هل هذا التطور وهذه الثورة التقنية بدون سلبيات أو لنقل ( منغصات )؟ الإجابة بالطبع ( لا ) لأن هناك العديد من المآخذ والسلبيات ومن أخطر هذه السلبيات سوء استخدام ثورة المعلوماتية Informatics والانترنت وتسخيرها في ارتكاب بعض الجرائم المستحدثة، وما يهمنا في هذا المجال تلك الجرائم المتعلقة بالعمليات المالية والمصرفية والتي تؤثر على مجمل الصناعة المالية.
إن هذا النوع الجديد من الجرائم في تطور مضطرد ويشكل هاجسا كبيرا لكل الحكومات والأجهزة الأمنية والمصرفية والمالية ولا بد من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهة هذه الجرائم العصرية التي تختلف كليا عن الجرائم التقليدية، ومن الممكن، كمثال، أن نذكر بعض الخلافات بين الجرائم التقليدية والعصرية المعروفة ب ( الجرائم الالكترونية ):
1- الجرائم التقليدية تأخذ أو ترتكب في وقت معين ومحدد وبحركات مادية معينة مثل وقت وكيفية ارتكاب جريمة القتل أو السرقة أو تجاوز سرعة المرور المحددة.
2- الأبعاد الإجرامية التقليدية محددة ومعرفة قانونا ومحددة كجرائم وفقا للقانون في البلد أو المكان الذي أرتكبت فيه وهذا القانون يصدر من البرلمان أو الجهات التشريعية المختصة مثل قانون العقوبات أو قانون الشركات أو قانون المعاملات في البلد المعني وذلك وفقا لمبدأ ( لا جريمة بدون نص ).
3- مكان ارتكاب الجريمة أو كما يقولون مسرح الجريمة وجسم الجريمة Corpus delicti معروف ومحسوس ماديا مثل وجود جسد الضحية أو آثار الجريمة في مكان ارتكابها من دماء أو شعر أو بصمات.
4- هناك نوع من الثقافة والعلم Culture and know-how بأن ما حدث يشكل جريمة أو مخالفة للقانون، وهذه الثقافة أو العلم تكون متوفرة للجميع بدرجة تمكنهم من عدم ارتكاب الجريمة والمخالفة أو منع حدوثها، لتجنب المسائلة القانونية، والجميع يعلم أن القتل أو النهب جريمة يعاقب عليها القانون.
هذه بعض السمات العامة التي تتميز بها الجرائم التقليدية (إذا حاز لنا أن نستخدم هذا التعبير) على عكس هذا الوضع نجد أن جرائم السايبرCyber – Crimes الحديثة قلبت مفهوم الجريمة رأسا على عقب لأنها لا تتقيد بالمكان أو الزمان أو الوقت وإضافة لهذا، وعلى عكس هذا الوضع، نجد أنه وبالنسبة للجرائم الالكترونية لا يتوفر حتى الآن بصفة كافية أي نوع من الثقافة أو العلم بهذه الجرائم أو كننها مما يجعل مجابهتها أو التصدي لها أمرا صعبا ومتشعبا بالغموض. ولهذا، وكحقيقة ثابتة، لا بد من التنويه بها وذكرها، بان إصدار التشريعات القانونيةLegislations لتعريف الجرائم الالكترونية الحديثة وتحديد مداها وعقوبتها قد يصبح أمرا صعبا أو مستحيلا في بعض الحالات.
ولا بد من القول، أن هناك بعض المحاولات الجادة لتعريف جرائم السايبر الالكترونية التي تتم بواسطة الكمبيوتر والانترنت ونجد أن بعض فقهاء القانون وغيرهم من المختصين ركز، أو لنقل سلط الضوء، على تعرف أو تحديد الأفراد Individuals ولهذا تم تحديد وتعريف مرتكب الجريمة مثل الهاكرز Hackers والكراكز crackerوجواسيس الكمبيوتر وإرهابيي الكمبيوتر … وغيرهم من مرتكبي جرائم الياقة البيضاء المتعلقة بالكمبيوتر مثل الـpornographers ومروجي الاخلال بالآداب والفن الإباحي والصور الفاضحة… الخ. وفي نفس الوقت نحد أن البعض، في سعيهم لإيجاد التعريف القانوني، لم يركز على الأفراد وإنما على الفعل أو التصرف behavior act / الذي قام به الفرد كسرقة أو تزوير الممتلكات غير المحسوسة ماديا Intangible property ، التلاعب بالبيانات واستغلالها بطريقة غير مشروعة، سرقة خدمات الكمبيوتر، الاحتيال، إعطاء تعليمات غير صحيحة، الدخول والتعدي غير المشروع، استخدام اسم في البريد الالكتروني E-mail وتسجيله بغرض التضليل … ألخ.
نخلص إلى القول أن هذا الوضع نشأ لأنه لا يوجد، حتى الآن، تعريف موحد وواضح لجرائم الكمبيوتر العصرية لأنها تتغير في كل يوم. هذا، بالرغم من المحاولات العديدة التي قامت بها الدول المتقدمة وعلى رأسها أمريكا وهيئات الأمم المتحدة ومجموعة الدول الأوروبية، وهذا من دون شك سيحتاج إلى زمن طويل وتكاتف دولي لأن هذه الجرائم كما ذكرنا لا تعرف الحدود الجغرافية أو السياسية وتدخل لأي مكان بدون تأشيرة دخول وبدون جواز مختوم.
إن النقطة الهامة في نظرنا والتي نرى أن تؤخذ في الاعتبار عند تعريف الجرائم الالكترونية التي تتم بواسطة الكمبيوتر والانترنت فانه يجب أن يتم التمييز وبوضوح تام، بين الاستخدام غير الصحيح للأجهزة أو الاستخدام بإهمال negligence أو عدم دراية بواسطة المختصين أو غيرهم من جهة وبين الاستخدام الموجه والمقترن بسوء نية وتفكير إجرامي من جهة أخرى. أي أن المحك يجب أن يكون سوء النية والقصد الجنائي لأنه لا يعقل أن يجرم الشخص الذي قام بتعديل بيانات هامة في الجهاز بحسن نية بدون قصد جنائي لمجرد أنه قام بتعديل البيانات لأن هذا التعديل أو التلاعب يجب أن يكون قد تم عن قصد إجرامي والغرض منه ارتكاب جريمة. وهذا بالطبع، من أساسيات القانون الجنائي، حيث يجب توفر الفعل المادي والنية الإجرامية واقترانهما بالسببية. اعتقد إذا تم التمييز بين الحالتين فان الوضع سيكون الأمثل (ولا ضرر ولا ضرار).
بالنسبة للبنوك والمؤسسات المالية، فان أهم الجرائم الالكترونية تتمثل في ارتكاب جريمة التعدي trespass بواسطة الأجهزة، أي انتهاك حرمة الآخرين دون مسوغ أو مبرر قانوني، وهذا يتم عن طريق أفراد يتمتعون بخبرة طويلة في التعامل مع هذه الأجهزة المتطورة ولا بد من توفير التدريب الكافي للموظفين لمواجهة هذه الجرائم التي تدخل في خفة تامة ودون أن يشعر بها أحد. والمجابهة هنا تتطلب وجود الأدمغة النظيفة والمؤهلة تأهيلا تقنيا عاليا. وكما نعلم، ارتكاب جريمة التعدي، يتم في الغالب لأسباب شخصية أو سياسية أو اقتصادية وتقوم النفوس الإجرامية بالتعدي على البنوك أو غيرها، للحصول على بعض المعلومات بقصد نشرها أو كشفها لجهات معينة أو للجمهور وذلك لأسباب سياسية بقصد إحراج الحكومات مثلا أو بغرض الابتزاز وطلب الفدية. وهناك من يتعدى بغرض تقديم المعلومات المصرفية السرية لجهات منافسة أو بغرض الجاسوسية أو بغرض الإرهاب الاقتصادي أو السياسي…الخ، والتعدي يتم بإدخال فيروسات في الجهاز بغرض استخدامها عند الحاجة لأي سبب في الحال أو في المستقبل المنظور. ونلاحظ أن هذه الجريمة انتشرت في الآونة الأخيرة وتعرضت لها البنوك والمؤسسات المالية، ومن الممكن أن تؤثر على العمليات التجارية والمصرفية. ولذا لا بد من اخذ الحيطة مع ضرورة تحصين الأبواب التي يدخل منها التعدي بمضادات الفيروسات “Antivirus” وشتى السبل الدفاعية ويجب على كل الجهات المستهدفة إلا تبخل بالمال في مواجهة الفيروسات التي ترتكب هذا التعدي.
إن السرقة قد تتمثل في الحصول بأي وسيلة على نسخة من مطبوعات أو بيانات أو صور خاصة بشخص مهم أو سرقتها الكترونيا دون علمه حيث يتم نسخها وتداولها أو التلاعب بها بطريقة تخالف القانون دون علم صاحبها. وفي مثل هذه الحالة ربما يكون بيع الصورة في بلد ويتم دفع الحساب بواسطة بنك أو شركات تحويل الأموال في بلد أخرى. وعند اكتشاف الجريمة يكون المبلغ قد تم أخذه من الحساب دون ترك أي اثر. ولقد امتدت السرقة الالكترونية وظهرت حالات عديدة تشمل التلاعب في كروت الائتمان أو الفيزا Credit cards or Visa cards التي تم سرقتها واستخدامها للشراء بواسطة الانترنت، حيث تم إصدار تعليمات للبنوك عبر الانترنت، وهنا لا بد أن نقول أن صيرفة الانترنت E-Banking والتجارة الالكترونية E-Commerce المرتبطة بها قد تكون مدخلا سهلا أو جذابا يتم عبره ارتكاب مختلف أنواع الجرائم الالكترونية. أن هذا الجيل من الجرائم العصرية، من دون شك، قد يشكل وضعا جديدا حساسا لا بد من متابعته بغرض تحديده ومجابهته ولكن مازالت المجهودات، في نظرنا، متواضعة لتحديد هذه الجرائم وتعريفها ومن ثم مكافحتها والقضاء عليها.
في الختام نقول أن المعاملات الالكترونية، شاملة صيرفة الانترنت E-banking وما يرتبط بها من التجارة الالكترونية E-commerce، تمثل طفرة حقيقية في العمليات المصرفية والتجارية ولكن هذه الطفرة لا تخلو من المحاذير وأخطرها الجرائم الالكترونية المصاحبة للطفرة التكنولوجية. ويحضرني في هذا المجال ما سبف أن قالته وزيرة العدل الأمريكية السابقة أن من أهم التحديات القانونية التي تواجه البشرية الآن، وأمريكا بصفة خاصة، هي الجرائم الالكترونية الحديثة التي لا تعرف الحدود أو الضوابط القانونية المتبعة منذ زمن بعيد Conventional Rules ، ولا بد من تكاتف الجهود لتحديد هذه الجرائم العصرية وتعريفها الواضح مع تحديد مداها حتى تتم مواجهتها وفقا للتشريعات القانونية الملائمة التي يتم إصدارها لهذا الغرض، واعتقد أن الجميع يتفق مع ما ذهبت إليه.
التطورات التقنية تزداد وتتوالد في كل يوم بل وفي كل لحظة، ومن هذا الواقع فأن العمليات المصرفية والمالية الالكترونية أصبحت واقعا معاشا يثبت وجوده وفعاليته في كل يوم ولذا يجب بذل كل الجهود لمتابعة كل التطورات التي تحدث. وفي نفس الوقت علينا جميعا، وهذا يشمل كل من يستخدم الأجهزة Users and players أو من ينتج البرامج Software experts أو غيرهم، إتباع أقصى درجات الحذر في مواجهة هذه الجرائم ومن يرتكبها. وننبه انه يجب على البنوك والمؤسسات المالية، أن تكون مستعدة للمقارعة بنفس الأسلحة التقنية التي يتم استخدامها في ارتكاب الجرائم الالكترونية ضدها أو ضد العملاء، وهذا بالطبع يحتاج لبعض الوقت ولكن لا بد من بداية المشوار بحزم مع ضرورة السير في الاتجاه الصحيح للوصول للهدف.
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنغيذي
ع \ شركة د. عبد القادر ورسمه للاسشتارات ذ.م.م
البحرين \ دبي