الخميس 28 سبتمبر 2023
تقوم البنوك التجارية بإصدار خطابات الاعتماد المستندية تلبية لرغبات الزبائن وهذه الخدمة المصرفية تلعب دورا كبيرا في دعم التجارة الدولية وتعظيم الثقة بين زبائن البنوك ونظرائهم في الدول الأخرى حيث تكتمل العملية التجارية وفقا للمقتضيات الواردة في خطابات الاعتماد المستندية.
وكانت هذه الاعتمادات تتم وفق مرئيات كل بنك على حدة أو وفق الشروط المتفق عليها فيما بين التجار، وفي حالات عديدة كانت تحدث بعض الخلافات فيما بين البنوك بعضها البعض أو فيما بين التجار والبنوك من الجهة الأخرى ولقد كان لهذه الخلافات الكثير من الآثار الواضحة في تعطيل التجارة والمعاملات المصرفية المرتبطة بهذه التجارة العالمية.
استمر الحال كما هو عليه لفترة طويلة حتى تنبهت غرفة التجارة الدولية بباريس لجسامة هذه الخلافات وانعكاساتها السلبية على التجارة البينية بين الدول المختلفة، ورأت الغرفة ضرورة البحث عن مخارج لتجاوز هذه الخلافات وفي الوقت نفسه، العمل على تمكين البنوك من القيام بدورها في تلبية رغبات الزبائن في مجال التصدير والاستيراد.
ومن هنا طرأت الفكرة «الجهنمية» بإصدار القواعد “الموحدة ” لتنظيم عمليات الاعتمادات المستندية التي أصدرتها واعتمدتها غرفة التجارة الدولية بباريس وحرصت على تنقيحها وتطويرها لمسايرة المستجدات التجارية والمصرفية، وآخر هذه القواعد الموحدة لتنظيم الاعتمادات المستندية تحمل رقم 600 (يو سي بي 600) وهي المطبقة الآن، حتى إشعار آخر.
مما تتميز به هذه القواعد “الموحدة – يونيفايد” أنها وفرت أسس لقيام نظام مصرفي موحد تسير عليه البنوك في كل أنحاء العالم. وهذا بدوره وفر لغة واحدة متعارف عليها بين جميع البنوك يتم تطبيقها وفق وتيرة مصرفية قانونية واحدة. وهذا أدى بدوره إلى انحسار أو انتهاء الكثير من الخلافات التي كانت تطرأ قبل انتهاج نظام القواعد “الموحدة” مما قاد إلى الانتشار والتوسيع الواضح لخدمة الاعتمادات المستندية في البنوك حيث توجد الآن دوائر بكل البنوك التجارية للعناية بالمتابعة اليومية لهذه الخدمة المصرفية المتنامية.
وأهم ما يميز القواعد الموحدة لتنظيم خدمة الاعتمادات المستندية أن البنوك تقوم بتنفيذ واجباتها والسداد بعد الاطلاع على المستندات فقط. والقاعدة الجوهرية هنا أن يتم التعامل «بالمستندات فقط»، وهذا يعني أنه عندما يقدم الزبون المستندات الخاصة بشحن البضاعة وما يرتبط بها من مستندات أخرى يجب على البنك السداد الفوري لأن التزامه متعلق فقط بالمستندات المذكورة في خطاب الاعتماد المستندي، ولا علاقة إطلاقا للبنك بالعقد التجاري بين المستورد والمصدر لأن عقد الاعتمادات المستندية مستقل تماما عن العقد التجاري وذلك تطبيقا الى «مبدأ الأوتنومي» أي الاستقلال بين العقدين.
هنا يتضح لنا حصر مسؤولية البنك فقط فيما يتعلق بالمستندات الواردة في خطاب الاعتماد المستندي إذ عليه الوفاء بالسداد عند تقديم المستندات له واطلاعه عليها. وقد تكون البضاعة المعنية غير سليمة أو غير مطابقة لمواصفات العقد أو منتهية الصلاحية أو غيره وهناك حالات عديدة بعد وصول البضاعة يكتشف العميل أنها حديد خردة وليست ملابس حسب العقد مع الطرف اللآخر “المصدر للبضاعة”… ولكن في جميع الأحوال، ومن الناحية القانونية، ليس للبنك أي علاقة بهذا الشأن ولا يسأل عنه قانونا، وليس مطلوبا منه التحري حوله أو حول أي تفاصيل متعلقة بالعقد المبرم فيما بين أطراف العملية التجارية من مستورد ومصدر. وذلك لأن البنك ليس جزءا من هذا العقد بل ولا يسأل عنه وفق القواعد الموحدة لتنظيم الاعتمادات المستندية.
بالرغم مما ذكرناه من أن انتهاج غرفة التجارة الدولية لهذه القواعد الموحدة أدى لتطوير التجارة وساعد البنوك كثيرا حيال تقديم الخدمات المصرفية الضرورية للعمليات التجارية الدولية، إلا أن قاعدة «الأوتنومي» الجوهرية التي تخول البنوك التعامل بالمستندات فقط لتنفيذ التزاماتها في الاعتمادات المستندية قد تفتح الباب واسعا للمحتالين وللعمليات الاحتيالية التي يلجأ لها ضعاف النفوس مستغلين قاعدة الدفع مقابل «التعامل بالمستندات فقط». ولقد اتضح في حالات عديدة عدم صلاحية البضاعة أو عدم تطابقها في المقاس أو الشكل وربما شحن أغراض تختلف عن البضاعة المطلوبة مثل شحن ملابس قديمة بدلا عن معدات طبية أو شحن حجارة بدلا عن حديد… وهذا في الحقيقة أمر مؤلم لكنه حدث ويحدث في كل يوم ومن كل الاتجاهات والبلدان.
هذا هو الوضع وفق قواعد (يو سي بي 600) ولا بد من معالجة هذه الثغرة لقفل باب الاحتيال والمحتالين، وفي هذا المجال نلاحظ أن المحاكم في بلدان «القانون العام» لعبت دورا كبيرا عبر تدخلها بإصدار قرارات قضائية مهمة أصبحت «سوابق قضائية» مضمونها عدم التقيد التام بقاعدة «التعامل بالمستندات فقط» إذا علم البنك بأمر وواقعة الاحتيال بحيث يمكنه عدم السداد بالرغم من تقديم المستندات له نظرا للاحتيال.
نعتبر هذا تطورا قانونيا كبيرا لمعالجة الاحتيال عبر الاعتمادات المستندية ولكنه أيضا لا يخلو من الصعوبات لأن تدخل المحاكم وإصدار السوابق معمول به في بلدان «القانون العام – القانون الانجليزي» ولا تطبقه دول القانون المدني “القانون الفرنسي” التي تسير وفق الأحكام المنصوص عليها في القانون. إضافة لهذا، هناك مواقف متباينة لمحاكم «القانون العام» التي أجازت عدم السداد في حالات الاحتيال لأن بعضها يفسر الاحتيال على أنه ذلك الاحتيال المتعلق بالاعتمادات المستندية نفسها بينما ترى محاكم أخرى أنه ذلك الاحتيال المتعلق بتنفيذ العقد المبرم بين الأطراف كعدم ملاءمة البضاعة للمواصفات مثلا.. إضافة إلى اللغط الدائر حول عبء إثبات الاحتيال وما هو الاحتيال المقصود؟ وهذه المواقف كما يتضح لنا جليا موافق متباينة، فعلى أيهما نسير وأين نتجه ؟ وقطعا هذا التمايز سيستمر لبعض الوقت حتى يستقر رأي المحاكم تماما وق أحكام قضائية نهائية وثابتة…
من دون شك للمحاكم، بصفة عامة، دور كبير في هذا الخصوص ولقد صدرت أحكام جميلة من المحاكم الإنجليزية والأمريكية وفي سواهما من بلدان القانون العام، ولكن الحل الأمثل في نظرنا هو قيام «اللجنة المصرفية» بغرفة التجارة الدولية بدراسة أمر الاحتيال وتضمين القواعد الموحدة (يو سي بي 600) أحكاما جديدة خاصة بعمليات الاحتيال وكيفية تعامل البنوك معها.
ونقول هذا لقناعتنا أن هذه اللجنة بها كوادر قانونية ومصرفية متميزة ومشهود لها بالكفاءة والخبرة الطويلة المتراكمة في مجالات الاعتمادات المستندية وكل ما له علاقة بالعمليات المصرفية، خاصة أن هذه اللجنة ظلت حريصة على تنقيح وتطوير القواعد الموحدة لتنظيم شتى أنواع العمليات المصرفية الدولية بما فيها آخر تحديث للقواعد الموحدة للاعتمادات المستندية بموجب أل «يو سي بي 600»… ومن الناحية القانونية، نري أن موضوع الاحتيال في الاعتمادات المستندية يحتاج لتوجيهات واضحة من غرفة التجارة الدولية انطلاقا من مبادئ توفير الحماية الضرورية الي التجارة الدولية والصناعة المصرفية حتي لا تنجرف في هذا المستنقع السام من مرتادي الاحتيال وهم كثر وتزداد أعدادهم مع كل صباح.
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
شركة د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م
البحرين \ دبي