تقوم البنوك بإصدار خطابات الاعتماد المستندية تلبية لرغبات الزبائن وهذه الخدمة المصرفية تلعب دورا كبيرا في دعم التجارة وتعظيم الثقة بين زبائن البنوك ونظرائهم في الدول الأخرى حيث تكتمل العملية التجارية وفقا للمقتضيات الواردة في خطابات الاعتماد المستندية. وكانت الاعتمادات تتم وفق مرئيات كل بنك على حدة أو وفق الشروط المتفق عليها فيما بين التجار، وفي حالات عديدة كانت تحدث الخلافات بين البنوك أو بين التجار والبنوك من الجهة الأخرى وكان لهذه الخلافات آثارا واضحة في تعطيل التجارة والمعاملات المصرفية.
استمر الحال كما هو عليه لفترة طويلة حتى تنبهت غرفة التجارة الدولية بباريس لهذه الخلافات وانعكاساتها السلبية على التجارة البينية بين الدول، ورأت الغرفة ضرورة البحث عن مخارج لتجاوز الخلافات وفي الوقت نفسه، تمكين البنوك من القيام بدورها في تلبية رغبات الزبائن في مجال التصدير والاستيراد. ومن هنا طرأت الفكرة «الجهنمية» بإصدار القواعد الموحدة لتنظيم عمليات الاعتمادات المستندية التي أصدرتها واعتمدتها غرفة التجارة الدولية بباريس وحرصت دائما على تنقيحها وتطويرها لمسايرة المستجدات التجارية والمصرفية.
تتميز هذه القواعد الموحدة بأنها وفرت نظاما مصرفيا موحدا تسير عليه البنوك في كل العالم وهذا وفر لغة واحدة بين جميع البنوك يتم تطبيقها وفق وتيرة مصرفية قانونية واحدة، وهذا بدوره أدى إلى انحسار الخلافات التي كانت سائدة قبل انتهاج نظام القواعد الموحدة مما قاد إلى التوسيع الواضح لخدمة الاعتمادات المستندية، حيث توجد الآن دوائر بالبنوك للعناية بالمتابعة اليومية لهذه الخدمة المصرفية الهامة.
وأهم ما يميز القواعد الموحدة لتنظيم خدمة الاعتمادات المستندية أن البنوك تنفذ واجباتها ويتم السداد بعد الاطلاع على المستندات فقط. والقاعدة الجوهرية هنا أن يتم التعامل «بالمستندات فقط» ومن هنا أتي اسم الاعتمادات المستندية. وهذا يعني عندما يقدم الزبون مستندات شحن البضاعة وما يرتبط بها من المستندات الاخرى المذكورة، يجب على البنك السداد الفوري لأن التزامه متعلق فقط بالمستندات المذكورة في خطاب الاعتماد المستندي. ولا علاقة إطلاقا للبنك بالعقد التجاري بين المستورد والمصدر لأن عقد الاعتمادات المستندية مستقل تماما عن العقد التجاري، وذلك استنادا الى «مبدأ الأوتنومي» أي الاستقلال بين العقدين. ومن هنا يتضح حصر مسؤولية البنك فقط فيما يتعلق بالمستندات الواردة في خطاب الاعتماد المستندي إذ عليه الوفاء بالسداد عند تقديم المستندات واطلاعه عليها. وقد تكون البضاعة غير سليمة أو غير مطابقة لمواصفات العقد أو منتهية الصلاحية أو غيره… ولكن في جميع الأحوال ليس للبنك أي علاقة بهذا الشأن ولا يسأل عنه قانونا، وليس مطلوبا منه التحري حوله أو حول أي تفاصيل متعلقة بالعقد المبرم فيما بين أطراف العملية التجارية من مستورد ومصدر لأنه ليس جزءا من هذا العقد بل ولا يسأل عنه وفق القواعد الموحدة لتنظيم الاعتمادات المستندية.
بالرغم مما ذكرناه من أن انتهاج غرفة التجارة الدولية لهذه القواعد الموحدة أدى لتطوير التجارة وساعد البنوك كثيرا حيال تقديم الخدمات المصرفية الضرورية للعمليات التجارية الدولية، إلا أن قاعدة «الأوتنومي» الجوهرية التي تخول البنوك التعامل بالمستندات فقط لتنفيذ التزاماتها في الاعتمادات المستندية قد تفتح الباب واسعا للمحتالين ولمخاطر العمليات الاحتيالية التي يلجأ لها ضعاف النفوس مستغلين قاعدة الدفع مقابل «التعامل بالمستندات فقط». واتضح في حالات عديدة عدم صلاحية البضاعة أو عدم تطابقها في المقاس أو الشكل وربما شحن أغراض تختلف عن البضاعة المطلوبة مثل شحن ملابس قديمة بدلا عن معدات طبية أو شحن حجارة بدلا عن حديد. وهذا في الحقيقة أمر مؤلم لكنه حدث كثيرا ويحدث.
هذا هو الوضع وفق قواعد (يو سي بي 600) ولا بد من معالجة هذه الثغرة لقفل باب الاحتيال وهناك محاولات عديدة للاصلاح. وفي هذا المجال، نلاحظ أن المحاكم لعبت دورا كبيرا وأصدرت قرارات قضائية مهمة أصبحت «سوابق قضائية» مضمونها عدم التقيد التام بقاعدة «التعامل بالمستندات فقط» إذا علم البنك بأمر وواقعة الاحتيال بحيث يمكنه عدم السداد وبالرغم من تقديم المستندات له نظرا للاحتيال في العملية. نعتبر هذا تطورا قانونيا كبيرا لمعالجة مخاطر الاحتيال عبر الاعتمادات المستندية لكنه لا يخلو من الصعوبات لأن هناك مواقف متباينة في المحاكم وهذا التمايز سيستمر لبعض الوقت حتى يستقر رأي المحاكم تماما.
ومن دون شك للمحاكم دور كبير في هذا الخصوص ولقد صدرت أحكاما جميلة من المحاكم الإنجليزية والأمريكية في هذا الخصوص، ولكن الحل الأمثل في نظرنا هو قيام غرفة التجارة الدولية بدراسة أمر الاحتيال وتضمين القواعد الموحدة (يو سي بي 600) أحكاما جديدة خاصة بعمليات الاحتيال وكيفية تعامل البنوك معها وذلك حتي نقفل هذا الباب تماما في وجه المحتالين ولحماية الصناعة المصرفية من هذه المخاطر الخطيرة. ومحاولات الغرفة مستمرة.
ان التجارة الخارجية تعتمد، لحد كبير، علي تمويل البنوك للاعتمادات المستندية التي تجمع أطراف من عدة أماكن ويتم تقديم الاعتمادات التي يتم تمويلها عبر البنوك التجارية. ولولا وجود هذه الخدمة المصرفية المتميزة لتأثر دولاب التجارة العالمية بل قد يتوقف لعدم وجود الرابط الذي يوفر الأموال لتحريك السفن التي تمخر حاملة علي ظهرها البضائع لمختلف أرجاء المعمورة. وفي حقيقة الأمر، فان البنوك ترصد يوميا مبالغ كبيرة لمقابلة التزامات زبائنها الخاصة بالاعتمادات المستندية المتعلقة بطلباتهم من التجارة العالمية. وعبر هذا النشاط المصرفي، ولثقة الأطراف في تعاملات البنوك، تدور رحى التجارة ويجد كل شخص ما يرغب فيه من شتي المصادر والمصانع والمزارع شرقا وغربا.
ولكن، من دون شك، هناك مخاطر عديدة ومتنوعة مرتبطة بالتجارة الخارجية العالمية مما قد يعرض أطرافها للعديد من المصاعب والأزمات. وعلى الجميع قبول حدوث مثل هذه المخاطر كأمر واقع مع ضرورة التعايش معها والعمل علي حسن ادارتها لتقليل الخسائر وما قد ينجم عنها من انتكاسات الي أكبر حد. وما يهمنا في هذا المجال، المخاطر الخاصة والمرتبطة بالاعتمادات المستندية المتعلقة بهذه التجارة. وبالطبع، هناك العديد من المخاطر المرتبطة بالاعتمادات المستندية، عدا ما هو متعلق بمبدأ الأوتنمي، التي يجب علي الأطراف العلم بها والعمل علي حسن ادارتها عند حدوثها أو لتلافي حدوثها. وحسن الادارة قد يتمثل في التنبؤ أو الاستشعار الأولي “عن بعد” بإمكانية حدوث مثل هذه المخاطر وبالتالي أخذ الحيطة والحذر بوضع شروط أو فقرات احترازية معينة وتضمينها في وثائق الاعتمادات المستندية أو كملاحق اضافية خاصة. هذا مع مراعاة أن تكون هذه الشروط واضحة ولدرجة كافية تشكل وتوفر الضمان المطلوب لمقابلة المخاطر. وهنا يحدث الفرق، وهو كبير جدا، بين من يفكر في المخاطر ويستعد لها ومن لا يهتم بالمخاطر ويتفاجأ بمفاجآتها بعد حدوث الطوفان.
ونشير الى أن أنواع المخاطر التي تحدق بالعمليات المرتبطة بالاعتمادات المستندية عديدة وتشمل حزمة المخاطر التي تعرف في مجملها ب “المخاطر لاقتصادية أو التجارية” وهذه المخاطر غالبا ما تتسبب في أو ينتج عن حدوثها خسائر مالية قد تكون كبيرة وتضر بالأطراف والعملية التجارية. والمخاطر الاقتصادية تشمل عدة مخاطر مثل التي تنتج عن الحرائق الكبيرة أو السرقة أو الفقدان.. وما يترتب علي هذا من ضياع وفقدان الممتلكات والبضائع والآثار الضارة التي تنجم عن هذا الوضع. وكذلك تشمل، خطر الزلازل والبراكين وخطر الحروب وكافة المنازعات الخارجية والداخلية… وغير هذا مما يسبب حدوث خسائر كبيرة. وأغلب هذا النوع من المخاطر يقع تحت طائلة ما يعرف بالظروف القاهرة أو الكوارث الطبيعية التي تأتي من أو بفعل الطبيعة. وعموما، هذه الفئة تشملها الأحكام العامة في “يو سي بي 600” وتعديلاتها، وتشمل الظروف التي قد تحدث دون علم الأطراف ودون أن يكون لهم فيها أي يد، وكذلك لا يستطيع الأطراف ايقافها لأنها خارج عن طاقتهم وطاقة كل البشرية في معظم الحالات مثل “التسونامي” أو الحالات المشابهة..
المخاطر الاقتصادية، تشمل كل المخاطر التجارية أو غيرها من المخاطر العامة غير التجارية. هذا مع العلم أن بعض المخاطر التجارية قد يتسبب في حدوثها الانسان بنفسه وان كان لا يعلم ما يأتي عنها من نتائج وهل سيؤدي حدوثها الي حدوث ربح أو خسارة؟ فعندما يقوم التاجر باستيراد بضاعة لبيعها، ففي هذا مخاطر لأنه قد يحقق أرباحا أو يحقق خسارة من هذا العمل. والمخاطر التجارية، التي يجب التنبه لها، قد تكون “عامة” تنطبق علي الجميع مثل انخفاض الأسعار بصورة مفاجئة وغير متوقعة لهذا الحد. أو قد تكون مخاطر “خاصة” تتعلق بالأطراف فقط أو بالعملية التجارية الخاصة بهم مثل اختفاء الطائرة أو السفينة التي تحمل البضائع أو المستندات أو الأشخاص. وبالنسبة للاعتمادات المستندية، قد تفلس البنوك المرتبطة مباشرة بهذه العملية أو تتم تصفيتها أو يتم وضعها تحت الحراسة القضائية. أو قد يحدث نفس الشيء للشركات والتجار المرتبطين بالاعتمادات المستندية. او قد يحدث ضرر في البضاعة أو المحصول أو المكان موضوع التعاقد… الخ.
كل هذا جزء من المخاطر التجارية التي تحدث يوميا، وبالتالي فمن الطبيعي أن تحدث كذلك للأطراف المرتبطة بالاعتمادات المستندية أو تحدث لأحدهم في أو أثناء أو قبل استلام المستندات أو ما يرتبط بها… وحدوث أي من هذه المخاطر بالطبع تتضرر منه مباشرة العملية التجارية المعنية ويتضرر منه الأطراف لأن كامل العمل يتوقف تماما في حينه عند حدوث هذه المخاطر، وفي توقفه أضرار جمة لها انعكاساتها علي خدمة الاعتمادات المستندية.
وما يهمنا هنا، أن نشير الي أنه بالرغم من امكانية حدوث مثل هذه المخاطر الاقتصادية والتجارية وغيرها الا أن الأطراف لا يتناولونها من قريب أو بعيد عند مناقشة تفاصيل الاعتمادات المستندية لاحتمال حدوث أي منها وكيفية ادارتها والاستعداد للتعامل معها. والاعتمادات المستندية في مجملها تشكل عقدا قانونيا بين الأطراف والعقد شريعة المتعاقدين، ومن حق الأطراف تناوله بحثا ونقاشا و خلافا واتفاقا…. وبعد ذلك يتم وضع فقرات وأحكام العقد، وليس ما يمنع أن يتناول هذا العقد تحديدا كيفية التعامل عند حدوث الافلاس أو التصفية أو حدوث أي من مسببات الظروف القاهرة أو الكوارث الطبيعية أو الكوارث التجارية كانخفاض الأسعار الحاد وتدخل الحكومات… والشاطر من يضع هذه الأمور في حسبانه ويضع أسس التعامل معها.
وبصفة خاصة، نقول أن الكثير تضرر بسبب الافلاسات العائمة التي اجتاحت بعض البنوك وتضررت منها الالتزامات المتعلقة بالاعتمادات المستندية بسبب عدم التطرق المباشر لكيفية معالجة مثل هذه المستجدات والأخطار… ومن المستحسن أخذ كل هذه المخاطر في الاعتبار، علي حسب كل منطقة وكل نوع من أنواع التجارة، واعادة صياغة وثائق الاعتمادات المستندية بطريقة توفر أدني حدود الحماية المطلوبة. وهذا أمر احترازي قد يكون وجوده مفيدا في بعض الحالات.. وعلى البنوك بذل العناية اللازمة وتوضيح مثل هذه الأمور للزبائن وتقديم النصح لهم من واقع التجارب التي تم اكتسابها عبر الممارسة لأن نجاح العملية يهمهم بنفس القدر الذي يهم الزبون. وهنا توجد مسؤولية مهنية وأخلاقية يجب علي البنوك التقيد بها للوصول بالخدمة المصرفية للمعالي والقمم.. وفي نفس الوقت ننبه التجار بأخذ الحذر والتفاهم وطرح البدائل في كل ما قد يحدث وذلك تجنبا للمخاطر وتقليلا لمردودها، وبهذا يكون الجميع كسبان..
المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب
المؤسس والمدير التنفيذي
ع\ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات
البحرين \ دبي