الخميس 18 يناير 2018 جريدة عمان قاعدة “الأتونومي” والاعتمادات المستندية

د. عبد القادر ورسمه غالب

تقوم كافة البنوك بدعم التجارة الدولية عبر تمويل خطابات الاعتماد المستندية تلبية لرغبات الزبائن المتعددة في هذا المجال. وهذه الخدمة المصرفية تلعب دورا كبيرا وهاما في تعظيم الثقة بين الزبائن والبنوك من جهة ونظرائهم في الدول الأخرى من الجهة الأخرى، حيث تكتمل العملية التجارية بموجب خطابات الاعتماد المستندية التي تقدمها البنوك. وهذه الاعتمادات كانت تتم وفق مرئيات كل بنك، أو وفق الشروط المتفق عليها بين التجار من المستوردين والمصدرين. وفي حالات عديدة، كانت تحدث الخلافات الحادة بين البنوك من الطرفين أو بين التجار والبنوك من الجهة الأخرى. ولقد كان لهذه الخلافات آثارا واضحة في تعطيل التجارة الدولية والمعاملات المصرفية.

Asia 728x90

تنبهت غرفة التجارة الدولية بباريس (أي سي سي) لهذه الخلافات وانعكاساتها السلبية على التجارة البينية بين الدول، ورأت ضرورة البحث عن مخارج مقبولة لتجاوز الخلافات ولتمكين البنوك من القيام بدورها في تلبية رغبات الزبائن في مجال التصدير والاستيراد والخدمات المصرفية المرتبطة بها. ومن هنا طرأت فكرة إصدار القواعد الموحدة لتنظيم الاعتمادات المستندية. وقامت غرفة التجارة الدولية بباريس بإصدار القواعد الموحدة وحرصت على تنقيحها لمسايرة المستجدات التجارية والمصرفية، وآخرها هي (يو سي بي 600).

تتميز “القواعد الموحدة للاعتمادات” بأنها وفرت قواعد ونظاما مصرفيا موحدا تسير عليه البنوك في العالم، وهذا وفر لغة واحدة بين جميع البنوك يتم تطبيقها وفق وتيرة مصرفية قانونية واحدة. وهذا التطور بدوره أدي إلى انحسار الخلافات التي كانت موجودة قبل انتهاج نظام “القواعد الموحدة” مما قاد للانتشار الواضح لخدمة الاعتمادات المستندية، حيث توجد الآن دوائر متخصصة في كل البنوك للعناية اليومية لتقديم هذه الخدمة المصرفية التي تشكل عصب الحياة لتجارة التصدير والاستيراد.

وأهم ما يميز “القواعد الموحدة” لتنظيم الاعتمادات المستندية، أن البنوك تنفذ واجباتها علي حسب رغبة الزبائن والسداد يتم بعد الاطلاع على المستندات فقط، ومن هنا أتت التسمية “الاعتمادات المستندية”. والقاعدة الجوهرية لهذه الخدمة أن يتم التعامل «بالمستندات فقط»، وهذا يعني عندما يقدم الزبون مستندات شحن البضاعة وما يرتبط بها من مستندات أخرى، علي حسب الطلب، يجب على البنك السداد الفوري لأن التزامه متعلق فقط بالمستندات المذكورة في خطاب الاعتماد المستندي، ولا علاقة للبنك بالعقد التجاري بين المستورد والمصدر لأن عقد الاعتمادات المستندية مستقل تماما عن العقد التجاري، وفق «مبدأ الأوتنومي» أي الاستقلالية والخصوصية الذاتية بين العقدين.

ومن هنا يتضح حصر مسؤولية البنك فقط فيما يتعلق بالمستندات الواردة في خطاب الاعتماد المستندي إذ عليه الوفاء بالسداد عند تقديم المستندات واطلاعه عليها. وقد تكون البضاعة غير سليمة أو غير مطابقة لمواصفات العقد أو منتهية الصلاحية أو غيره.. ولكن وفي جميع الأحوال ليس للبنك علاقة بهذا الشأن ولا يسأل عنه قانونا، وليس مطلوبا منه التحري حول أي تفاصيل متعلقة بالعقد المبرم بين أطراف العملية التجارية من مستورد ومصدر لأنه ليس جزءا من هذا العقد ولا يسأل عنه وفق “القواعد الموحدة” لتنظيم الاعتمادات المستندية.

بالرغم مما ذكرناه، من أن انتهاج غرفة التجارة الدولية  “للقواعد الموحدة” أدى لتطوير التجارة وساعد البنوك حيال تقديم الخدمات المصرفية الضرورية للعمليات التجارية الدولية، إلا أن قاعدة «الأوتنومي» الجوهرية التي تخول البنوك التعامل بالمستندات فقط لتنفيذ التزاماتها في الاعتمادات المستندية قد تفتح الباب واسعا للمحتالين وللعمليات الاحتيالية التي يلجأ لها ضعاف النفوس مستغلين قاعدة الدفع مقابل «التعامل بالمستندات فقط». واتضح في حالات عديدة عدم صلاحية البضاعة أو عدم تطابقها في المقاس أو الشكل وربما شحن أغراض تختلف عن البضاعة المطلوبة مثل شحن ملابس قديمة بدلا عن معدات طبية أو شحن حجارة بدلا عن حديد. وقد حدث هذا التلاعب الخبيث من الخبثاء.

وهذا في الحقيقة أمر مؤلم لكنه حدث ويحدث، ولا بد من معالجة هذه الثغرة لقفل باب الاحتيال، وفي هذا نلاحظ أن المحاكم لعبت دورا كبيرا وأصدرت قرارات قضائية مهمة مضمونها عدم التقيد التام بقاعدة «التعامل بالمستندات فقط» إذا علم البنك “علما كافيا” بأمر وواقعة الاحتيال بحيث يمكنه في مثل هذه الحالات الاحتيالية والتدليس عدم السداد بالرغم من تقديم المستندات له نظرا للاحتيال والتدليس.

بحكم تجربتنا في التعامل مع “الاعتمادات المستندية”، نعتبر هذه الأحكام القضائية تطورا قانونيا كبيرا لمعالجة كل أنواع الاحتيال عبر الاعتمادات المستندية.  لكن هذا الموقف لا يخلو من الصعوبات نظرا لأن هناك مواقف متباينة في المحاكم وهذا التمايز في الأحكام بالطبع سيستمر لبعض الوقت حتى يستقر رأي المحاكم تماما في اصدار سوابق قضائية ثابتة ونهائية.

من دون شك للمحاكم دور كبير في تثبيت أركان العدالة، ولكن الحل العملي والأمثل لعلاج هذه الأمر، في نظرنا، هو قيام غرفة التجارة الدولية بدراسة أمر الاحتيال وتضمين “القواعد الموحدة” (يو سي بي 600) أحكاما جديدة خاصة بعمليات الاحتيال وكيفية تعامل البنوك معها، وذلك حتي نقفل هذا الباب تماما في وجه المحتالين ولحماية الصناعة المصرفية من الاحتيال والمحتالين.

د. عبد القادر ورسمه غالب

الخبير والمستشار القانوني

ع \ د. عبد القادر ورسمه للاستشارات

المنطقة الدبلوماسية – برج الدبلومات

الطابق 4 – شقة رقم 45